مصادرة الاراضي الفلسطينية وتجريفها‬‎
احمد .. 9 سنوات , وطفولة عَمدها الحصار

الاثنين، 22 يونيو 2009

«إن عشقت اعشق قمر، وإن سرقت اسرق جمل».

ضحى شمس *

الانتخابات الأخيرة في لبنان مثال على صوابية هذا المثل السائر الذي يُقال في معرض نصح من يريد السرقة، (لاحظوا تعاطفنا الشعبي التاريخي مع اللصوص) أن يصوّب عالياً، لأن الرائي لن تخطر بباله ضخامة السرقة، أو وقاحة السارق في التبختر بجمل مسروق أمام الجميع. و«الجمل» في الرواية الانتخابية اللبنانية الأخيرة، هو الرشوة التي كان حجمها بالحقيقة معادلاً لقافلة من الجمال والإبل. قافلة أدخل بواسطتها اللبنانيون، بحنكتهم المعهودة، «أغنياءهم» من خرم أبرة صناديق الاقتراع، إلى ملكوت السلطة السياسية، من دون أن تلحظها أيّ من عيون لجان مراقبة الانتخابات الأميركية أو الدولية أو المحلية أو الأوروبية أو العربية أو التركية أو حتى وزارة الداخلية، المعتادة تاريخياً على هذا النوع من النشاط «الوطني». مع أن تلك اللجان سرحت منذ ما قبل الانتخابات، كما يسرح البزاق بعد المطر في ربوعنا، مفاجئة المتابع بعدد المتطوعين فيها، وبتعدد تمويلها، وبقلة ثقة مرجعياتها الواحدة بالأخرى ـــــ بدليل إرسال كل منها لجنتها الخاصة ـــــ وبوتيرة نشاط طمأن في البداية المواطن العادي، إلى أنه لا شيء سيمر من تحت أنفها و«السما زرقا».
وبما أنه لـ«السما الزرقا» خبرة بمواضيع القوافل والجمال، فقد مر الأمر برشاقة منقطعة النظير. وهي رشاقة حسدهم عليها بعض أتباع الألوان الأخرى، ممن رشوا وارتشوا بأشكال متعددة، مع أنهم بدوا بالمقارنة، حديثو النعمة في ملكوت فاسدي لبنان.
كلام كثير كتب وقيل عن الرشى الانتخابية، لكن معظمه كان «غائماً» من دون تفاصيل. لم يثبت أحد على أحد شيئاً. لم يشهد أي شاهد بأي شيء، مع أن التداول بالأمر بلغ حداً نشرنا معه في «الأخبار» ما يشبه التسعيرة تبعاً للمناطق التي ستشهد معارك على تمثيلها، ومع أن هذه المخالفة هي الأكثر توقعاً وحصولاً في الاستحقاق الأخير، ومع أنّ لمراقبينا باعاً طويلاً في المراقبة (انظر جيمي كارتر صاحب الشهادة الوحيدة الإيجابية بانتخابات «حماس»)، فإنه لا أحد قبض على أحد بحادثة رشوة، لا بل إن الجميع أعلن قبوله بنتائج الانتخابات. هكذا، مرت مقالة في الـ«نيوزويك» للصحافي كريستوفر ديكي (عدد 9حزيران) تحدثت عن تمويل سعودي للحملة الزرقاء فاق بحجمه تمويل حملة باراك أوباما شخصياً، من دون أن يقتبس أحد منه شيئاً، لا الصحافة ولا المراقبون. لماذا؟ الجواب ببساطة: لأن فساد الناس أصبح عاماً أكثر من أي وقت مضى. هناك تواطؤ على الفساد «حكومة وشعباً» باعتباره «موسماً للاسترزاق». وهو موسم يجري خلاله تنفيس احتقان الحرمان الذي تسببه سياسات الدولة الليبرالية المتوحشة، بما لا يزعج بنيتها بل يعززها.
هكذا، يتيحون بأنفسهم مواصلة حرمانهم بانتظار موسم «الاسترزاق» المقبل، والاستحقاق البلدي ليس بعيداً. لقد أصبح الفساد بنية بديلة للدورة الاقتصادية، ولعلاقة اللبنانيين بدولتهم، كذلك فإنّ مجلس الإنماء والإعمار بديل لوزارة التخطيط، ومولّد الكهرباء بديل للتيار الرسمي، والقطاع التربوي الخاص أصبح بديلاً للقطاع الرسمي (لمن استطاع إليه سبيلاً) وبتواطؤ من نوليه عليه، برغم تعارض مصالح مؤسساته الخاصة التربوية مع مصلحة المدرسة والجامعة الرسمية.
لقد وصل التواطؤ بين المرتشي والراشي، وكلاهما يعاقبه القانون، إلى حد الإجماع الوطني. أي إن عدد الموافقين على الرشوة الانتخابية قد يفوق عدد المتفقين على نهائية لبنان وطناً لأبنائه. أي إنّ الرشوة الانتخابية ليست فقط مقبولة، بل منتظرة ومتوقعة ومنتشرة، ما يجعل المرء يعيد النظر بتصنيفها. فإن كان شعب بكامله، أو لنقل بأغلبه، فاسداً، فمن يقرر تصنيف الرشوة مخالفة؟
أما القصة الوحيدة التي خرجت للعلن بموضوع الرشى، فقد كانت دليلاً على ما نقول. فالرجل الذي اتهم النائب إبراهيم كنعان بالرشوة، كان يتهمه من باب أنه لم... يفِ بتعهداته المالية، لا من باب انتقاد الفساد، لا سمح الله أو غادة عيد.
هذا التواطؤ جعل شخصاً مثل خوسيه إيغناسيو سالافرانكا، رئيس البعثة الأوروبية لمراقبة الانتخابات، يرد على سؤال عن ممارسات الرشوة الانتخابية، بأن هذا الأمر، اسمعوا جيداً، «تقليد لبناني». وبما أنه تقليد، فإن سالافرانكا، بحرصه على مراعاة «الإتيكيت»، لم يتدخل حتى لمجرد الطعن بصحة الانتخابات التي أتى لمراقبتها.
أما لو كانت المعارضة هي الرابحة؟ فهل كان سالافرانكا ليقول ما قاله؟ قد تكون الإجابة المرجحة أقرب لإجابة راقية إبراهيم الشهيرة لعبد الوهاب: بالطبع لا.
اللبنانيون فاسدون ومفسدون أكثر من أي وقت مضى. يريد اللبناني أن يتوظف بالدولة «لأنه ما بتشتغل شي والعطل كثيرة»! وبالطبع لا يمكن أن «يشحطوك» منها لأنك ممثل الطائفة فيها، ما سيجبرهم على طرد موظف من طائفة أخرى وإلا فالكلام سيتصاعد عن التوزان والتجني... ولكل طائفة عدتها من «المخاوف» الوطنية.
أما حين يتخرج «الصبي»؟ فإن «كونسلتو» العائلة يجتمع بقضه وقضيضه، ويجري التباحث في أفضل السبل لاقتحام «مصلحة الجمارك» مثلاً، أو «تزبيطه» أي توظيفه، في «النافعة» أي مصلحة تسجيل السيارات. أما لماذا هذه المصالح دون غيرها؟ «ولو؟ فيها براني» يقولون لك. وما هو البراني؟ هو باختصار المال الذي يمكن الموظف تحصيله من خارج المعاش... لكن أثناء الدوام. أي إنه أحد أسماء الرشوة الحسنى. وهي أسماء نصرفها يومياً في كل مرافق حياتنا العامة اللبنانية لكي تمشي. هكذا تبدو البلاد مصممة، بالأصل، بالمنشأ، للواسطة والرشوة، وتبدو الأمور عاجزة عن التصريف إذا لم يمشِّها «فلان» أو يزبطها «علّان»، لا بل إن الناس نسوا حتى ما هو القانون الذي تخالفه.
لم يعد «مكره أخوك لا بطل»، بل أصبح بطلاً، وببطولة مطلقة. بطولة إعجازية، حصرية، تجلت في فيلم الانتخابات الأخيرة: بطولة ملأت الشاشات لدرجة أن لا أحد لاحظها. أن تتسع ممارسات الرشوة لدرجة تصبح هي القاعدة لا القانون. أن تسرق جملاً، وتعبر فيه برشاقة راقصة بولشوي، أمام أصحابه، وهم يحيونك ويدعونك لشرب القهوة. هذه هي الشطارة، والشطارة كما تعلمون قيمة لبنانية بامتياز.
في نهاية اليوم الانتخابي الطويل، عدت إلى البيت، فلمحت ناطور البناية جالساً كعادته على كنبته. استغربت أنه هناك مع أن اليوم يوم عطلته، وفوق الدكة انتخابات، فسألته إن كان انتخب؟ فرد وهو يكنس الهواء بظاهر يده: «لشو؟ ما حدا إجا صوبنا ولا قلنا بأديش الكيلو؟ عمرو ما يكون». «على رأيك»، قلت في نفسي. لا بل قلت له ذلك بصوت عال!
* من أسرة الأخبار

ليست هناك تعليقات: