مصادرة الاراضي الفلسطينية وتجريفها‬‎
احمد .. 9 سنوات , وطفولة عَمدها الحصار

السبت، 26 ديسمبر 2009

رسالة تهديد إلى بابا نويل

عمر نشّابة


لن نكرّر مطالبنا هذا العام، ففي جعبتك آلاف الرسائل. أنت تعرف جيداً ما نطلبه يا بابا نويل، لكنك تتلكّأ، تماطل، وتتهرّب من مسؤولياتك، وتلهينا بزينة الشجرة وديك الحبش وتراتيل الميلاد. تضيِّّعنا في الأسواق الاستهلاكية الضخمة حيث تعلِّمنا أن نحلم بالعملة الصعبة، وتُقنع العالم بعجائب الأوراق النقدية.
لماذا يا بابا نويل؟ لماذا تناسيت آلاف المفقودين الذين طلبنا منك إحضارهم إلينا لنحتفل معهم (أو بجوار قبورهم) بميلاد ربّ الرحمة والغفران؟ لماذا تناسيت المعذّبين في السجون والمبعدين عن ديارهم مكرهين؟ ألم نتوسّل إليك تحرير آلاف السجناء والسجينات من معتقلات القهر والموت والتعذيب؟ ألم نناشدك إعادة أبناء بيت لحم والناصرة وعكا ويافا وصفد والقدس إليها ليحتفلوا بميلاد جدّهم في دفء المغارة. لماذا يا بابا نويل قرّرت أن تقدّم آلام الفصح على نور الميلاد؟ وهل يُعقل أن يصلب المسيح في فلسطين قبل أن يولد؟
لماذا نسيت العراق يا بابا نويل؟ ولم تلتفت إلى قافلة اللاجئين الهاربين من ويلات الغرب بين النهرين؟
ماذا قلت يا صاحب العيد؟ هل تفوّقت المدن الغربية الكبرى على قطبك الشمالي فتساقطت أشلاؤه في البحر؟ بتّ رهينة حكّام البنك الدولي؟ ودمية بيد الدول الصناعية الكبرى؟ أليس كذلك يا بابا نويل؟ حسناً، لن نطالبك بالهدايا الثقيلة حرصاً على حمايتك من الغرق. لكن، هل كثير علينا أن نطلب منك الكهرباء ليلة الميلاد؟ هل صعب عليك شقّ الطرقات وتحرير المختنقين في سياراتهم من العجقة؟
لا يا بابا نويل، لن نكرّر مطالبنا هذا العام، ففي جعبتك آلاف الرسائل. أنت تعرف جيداً ما نطلبه يا بابا نويل لكنك تتلكأ، تماطل، وتتهرّب من مسؤولياتك، وتلهينا بزينة الشجرة وديك الحبش وتراتيل الميلاد.
نبعث إليك اليوم رسالة تهديد، واعلم أن لدينا، نحن اللبنانيين، خبرة واسعة في ذلك. فتذكّر يا بابا نويل القتل والخطف والذبح على الهوية. تذكّر يا عجوز العيد القرى التي مسحناها وهجّرنا أهلها والمباني التي قصفناها بمدفعيتنا الثقيلة العيار. تذكّر وتنبّه للتهديد الذي نوجّهه إليك، وإذا أردت الادّعاء علينا أمام القضاء... «أهلين». جرّب يا شاطر. إذا استمرّ إغفالك لرسائلنا فسنطلب من دوريات الشرطة سحبك إلى نظارة مخفر حبيش حيث سيتولّى أكفأ ضابط ورتيب تعليقك على خشبة الفرّوج ليسمع العالم صراخ ألمك يا بابا نويل، أو تحيلك إلى مديرية الاستخبارات في الجيش أو دهاليز فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي. ولا تخش يا حبيبي، فمستشفى فندق الله (أوتيل ديو) الذي أتيت إلينا بمناسبة ولادته اليوم بجوار نظاراتها.
وبعد حفلة التعذيب والإذلال سنرميك في الطبقة الثالثة تحت الأرض في سجن الأمن العام بجوار قصر العدل. فأنت أجنبي أليس كذلك؟ ألم تقل إنك من القطب الشمالي؟ ألديك أوراق ثبوتية؟ ماذا قلت؟ لاجئ من القطب الشمالي الذي تعرّض لعدوان بيئي؟ ارموه في عتمة الزنزانة الانفرادية!

الأخبار عدد الجمعة ٢٥ كانون الأول ٢٠٠٩

الاثنين، 26 أكتوبر 2009

مجد لبنان أعطي للتبّولة

- خالد صاغية


فشل في تأليف الحكومة.
فشل في الاتفاق على أسس بناء وطن.
فشل في إدارة الدَّين العام.
فشل في التعايش بين الطوائف.
فشل في فصل الدِّين عن الدولة.
فشل في نظام الضرائب.
فشل في تمضية عشرين عاماً متواصلة من دون نشوب حروب أهليّة.
فشل في تقبّل الناس ونبذ المشاعر العنصريّة تجاه كلّ ذي بشرة سمراء.
فشل في الإحساس بالكرامة أمام الرجل الأبيض.
فشل في الاتفاق على العدوّ والصديق.
فشل في احترام إشارات السير.
فشل في رائحة المازوت.
فشل في زمامير سيّارات السرفيس.
فشل في تنظيم الدوائر الحكوميّة.
فشل في الصحف.
فشل في إنتاج السينما.
فشل في الأحزاب وفي البرامج وفي الشعارات.
فشل في نظافة الشوارع.
فشل في الطرب والمطربين.
فشل في البرامج الكوميديّة وغير الكوميديّة.
فشل في الأراضي الزراعيّة.
فشل في المصانع التي تقفل.
فشل في حقوق العمّال.
فشل في تزفيت الطرقات.
فشل في حفظ الأمن.
فشل في احترام العادات والتقاليد المغايرة.
فشل في احترام الفقراء.
فشل في حقوق المرأة.
فشل في الحوارات السياسيّة.
فشل في تعليم اللغة.
فشل في التشبيح.
فشل في عمليّات التجميل.
فشل في التكبّر على الآخرين من دون أيّ سبب.
فشل في ادّعاء الوجاهة.
فشل في مطالبة الدولة بأبسط واجباتها.
فشل في القدرة على التجمّع حول مطلب واحد.
فشل في استخدام الأجهزة الخلويّة.
فشل في نظام التعليم.
فشل في الموت أمام أبواب المستشفيات.
فشل في الحدائق العامّة.
فشل في فرص العمل.
فشل في كلّ شيء... تقريباً كلّ شيء.
لكن، رغم كلّ هذا الفشل، يحتلّ لبنان المرتبة الأولى في ميادين كثيرة. فبعد الكبّة والحمّص، دخل لبنان أمس كتاب «غينيس» مع أكبر صحن تبّولة. 1600 كلغ من البقدونس. 1500 كلغ من البندورة. 420 كلغ من البصل... صنعت مجد لبنان أمس. مجد تبلغ زنته ثلاثة أطنان ونصف طن من التبّولة.
«الحمّص من وين؟ التبّولة من وين؟» هتف ميشو، وإلى جانبه الشيف رمزي، ليخوض معركته السياسيّة ضدّ إسرائيل. وما حدا أحسن من حدا.

الأخبار عدد الاثنين ٢٦ تشرين الأول ٢٠٠٩

السبت، 24 أكتوبر 2009

جرائم إسرائيل بين القاضي غولدستون والدولة اللبنانية

المحامي ألبير فرحات

التقرير الذي أصدره القاضي غولدستون الذي ترأس لجنة تقصي الحقائق في حرب غزة الأخيرة للتثبت من وجود خروقات للقانون الدولي الإنساني ولحقوق الإنسان أثار ضجة لم تهدأ بعد مع تعالي الضجيج من جانب إسرائيل والولايات المتحدة. ذلك أن خوفهما من مضاعفات تقرير غولدستون هو مبرر تماماً.

فلأول مرة يصدر عن هيئة رسمية دولية ما يكشف عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبتها إسرائيل وما يُظهر جيشها على حقيقته قاتلا للأطفال بدم بارد، موجهاً قنابله الفوسفورية إلى مدارس الأونروا، أي وكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين وغيرها من الجرائم التي لا يمكن مقارنتها إلا بجرائم النازية.

ولقد ظهر مدى الحرج الذي أصيبت به الدولة الصهيونية من خلال طلبها الوقح وغير المسبوق بتعديل إتفاقيات جنيف الخاصة بحماية المدنيين في زمن الحرب! وكأنها تريد إضفاء الشرعية على جرائمها بحق المدنيين بعد ثبوت إقدامها عليها.

على أن كل ذلك شيئ وموقف الحكومات اللبنانية المتعاقبة من ملاحقة إسرائيل بسبب الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها في لبنان هو شيئ آخر تماماً!

فإن هذه الحكومات اللبنانية لم تحرك ساكناً من أجل ملاحقة إسرائيل ومحاكمتها بالرغم من أن مجلس الوزراء قد قرر أثناء عدوان تموز تخصيص مبلغ يزيد على ثلاثة ملايين دولار من أجل إقامة دعاوى وتكليف مكاتب محامين دوليين ولكنه لم يفعل شيئاً! وذهبت الملايين أدراج الرياح! فقد باشر وزير العدل الأستاذ بهيج طبارة العمل لملاحقة إسرائيل إلا أن كل شيئ قد توقف بقدرة قادر!!

بل أكثر من ذلك فإن السفارات اللبنانية في الخارج لم تقدم أي عون للبنانيين الذين يحملون جنسيتين وقدموا دعاوى بحق إسرائيل أمام محاكم تلك البلدان التي يحملون جنسيتها!

بل إن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون قد تمنى منذ بضعة أشهر على إسرائيل تعويض لبنان على الأضرار البيئية التي لحقت به من جراء قصف محطة الجية أثناء حرب تموز إلا أن الحكومة اللبنانية لم تسمع ولم تهتم!

بل وأكثر وأكثر فإن عدداً من الحقوقيين الديمقراطيين في فرنسا وبلجيكا وأميركا اللاتينية قد تقدموا بشكاوى أمام المحكمة الجنائية الدولية بحق إسرائيل بسبب جرائمها في لبنان ولم توجه لهم حكومتنا حتى كلمة شكر!

إن موقف الحكومات اللبنانية هذا ليس صدفة، يجب القول أن لدينا أكثر من محمود عباس واحد لا يريدون إزعاج العدو وحليفته الولايات المتحدة ولو على حساب دماء اللبنانيين. وإلا كيف يمكن تفسير أن لبنان هو، إلى جانب إسرائيل والولايات المتحدة، من الدول القليلة في العالم التي لم تنضم إلى المعاهدة الدولية التي أنشئت بموجبها المحكمة الجزائية الدولية بحيث لا نستطيع أن نتقدم بشكاوى أمامها!؟؟

هل تصل مسايرة أميركا وإسرائيل إلى هذا الحد؟
وماذا سيكون عليه موقف لبنان بعد انتخابه عضواً في مجلس الأمن؟

لقد اعتبر الرئيس ميشال سليمان في الكلمة التي ألقاها في مناسبة اففتاح السنة القضائية ان ذلك الإنتخاب سيجعل لبنان رأس حربة لحماية مصالحه ومصالح الأمة العربية والتصدي للإحتلال الإسرائيلي ودفاعاً عن الشعب الفلسطيني!

إننا نأمل من فخامة الرئيس وهو المعروف بمبادراته الوطنية وصدقيته أن يقرن القول بالفعل، وأن يطرد من الهيكل التجار والمرابين وأعوان إسرائيل المستترين والمفضوحين معاً، وأن يعمل على ملاحقتها ومحاكمتها على جرائمها!


*تعليق اليوم أُذيع على إذاعة صوت الشعب بتاريخ اليوم 24 تشرين الأول 2009

الأربعاء، 21 أكتوبر 2009

لبنان بحاجة إلى يسار

فواز طرابلسي
السفير 21 تشرين الأول 2009

الاحتفال بالذكرى الخامسة والثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني ليس بالحدث العابر. ففي الاحتفال بأقدم حزب لبناني احتفالٌ بلبنان الذي لا يكبر الحزب بأكثر من أربع سنوات، كما أشار الأمين العام للحزب خالد حدادة في حديثه عن التداخل العضوي بين أقدم حزب لبناني وبين حياة الوطن بمختلف جوانبها.
على أن الاحتفال بعيد ميلاد هذا الشيخ ينطوي على مفارقتين: الأولى أن الحزب الشيوعي هو الآن حزب يطغى على عضويته عنصر الشباب.
والمفارقة الثانية هي أن الحزب يحتفل بذكرى تأسيسه والبلد أحوج ما يكون إلى يسار متجدد ينضم إلى أطيافه الفكرية والسياسية. والأمران كلاهما يشد وجهة المستقبل.
لبنان يحتاج إلى يسار لا لشيء إلا لأن قواه السياسية تزداد جنوحاً نحو اليمين، أي نحو المحافظة على الأوضاع القائمة والقبول بالتمايزات والفروقات بين اللبنانيين وكأنها معطى من معطيات الطبيعة أو الإرادة الإلهية أو الفرادة اللبنانية.
ولبنان يحتاج إلى يسار لوجود سياسة اقتصادية تنمّي التمايز الاجتماعي والمناطقي وتزيد الارتهان للخارج، وهي، رغم كل شيء، ليست تلقى البديل الجدي من طرف المعارضة.
ولبنان بحاجة إلى يسار تحديداً لكي يعيد التوازن إلى مروحة أطيافه الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
ويجوز الزعم أن اليسار قادر على أن يقدّم جديداً هنا.
اليسار قادر، إن شاء واستطاع، على تجاوز أحادية الجانب والأولويات الزائفة في الأهداف والمهام والوسائل التي قام عليها الاستقطاب الاعتصابي الراهن بين المعسكرين.
وهو قادر أن يسهم بوجهة نظر تقول إن تنظيم التعبئة ضد العدو الإسرائيلي، والدفاع عن سلاح المقاومة ورسم استراتيجية للدفاع الوطني، لا تلغي ضرورة الالتفات إلى بلورة تصوّر جديد للعلاقات اللبنانية السورية يتجاوز منطقي القطيعة والتبعية ويذهب وجهة استكشاف المصالح المشتركة في إطار من الاحترام المتبادل لسيادة واستقلال البلدين.
وفي مجال السيادة والاستقلال، اليسار قادر، إن شاء واستطاع، أن يكون الداعي الأشد إلحاحاً إلى تخفيف الارتهان الاقتصادي للخارج، بدعم القطاعات الإنتاجية، وتخليصها من هيمنة حزب المستوردين والمصرفيين، لكي تشكّل القاعدة المادية التي يحقق بواسطتها الوطن الصغير المقدار الكافي والممكن من السيادة والاستقلال الوطنيين والسياسيين.
واليسار قادر، إن شاء واستطاع، أن يبلور نظرة جديدة لتجاوز المسألة الطائفية بما هي مهمة ديموقراطية بالدرجة الأولى تؤسس للمساواة السياسية والقانونية بين المواطنين، فيما هم، في النظام الطائفي، رعايا غير متساوين في الحقوق والواجبات والتمثيل السياسي والقانون.
واليسار قادر، إن شاء واستطاع، على ربط المسألة الطوائفية بمضمونها الاجتماعي، من طريق العدالة الاجتماعية: التوازن في التنمية المناطقية والتوزيع العادل للثروة ولخدمات الدولة على الجميع. واليسار هو الذي يتوجه للجميع قائلاً: وفّروا للمواطنين اللبنانيين العمل والخبز والصحة والسكن والماء والكهرباء والضمان الصحي والتعليم الديموقراطي والتقاعد ودلّونا على ما الذي يتبقى من الانقسامات والنزاعات الطوائفية.
واليسار قادر، إن شاء واستطاع، أن يزيل التشويه الذي يلحقه الحداثيون والإسلاميون على حد سواء بالعلمانية بتصويرها نقيضاً من التديّن أو ممحاة للهويات. فيعيد الاعتبار للعلمانية بما هي الحياد الديني للدولة ـ للدولة لا للمجتمع! ـ من خلال إعطاء اللبنانيين الحق الديموقراطي في أن يختاروا قانون الأحوال الشخصية الذي يريدون، مذهبياً كان أم مدنياً.
من هنا فإن ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي اللبناني مناسبة استثنائية لا لمجرد التذكير بالمكان الذي يتعيّن على اليسار أن يملأه في حياة البلد، وإنما لطرح السؤال عن استعداده للارتقاء إلى مستوى هذا الدور وتلك المهمات.
شاء الحزب الشيوعي أن يلوّن ذكراه باللون الأحمر من خلال شعار: «غيِّر بالأحمر». التغيير بالأحمر؟ شعار دافئ وموحٍ وجميل، وهو فوق ذلك إعلان نوايا ضاج بالأمل. ولكن لن يأتي التغيير بالأحمر دون الانتهاء من خلط الألوان وبناء الشخصية المستقلة للأحمر ورؤياه المتكاملة وقواه الذاتية واستعادته ثقته بنفسه.
وهذا يتطلّب استجماع اليسار لمصادر قوته وفي مقدمتها: سلاح النظرية. وهو السلاح المجهّز لا للعنف وإنما للمعرفة. ويملك اليسار أغنى نظرية في معرفة النظام الرأسمالي الذي يحكم عالمنا من أجل تغييره.
والتغيير بالمعرفة يعني بلورة الهوية والرؤية. تزداد الحاجة إلى هذه وتلك في لحظات الهامشية والضعف. بدلاً من العكس وهو ما درج عليه اليسار عموماً والحزب الشيوعي خصوصاً: التنازل في النظرية والأهداف، ما يفقد الهوية والموقع الاجتماعي والشرعية الشعبية. من حق اليسار والحزب الشيوعي، بل من واجبهما، استعادة المشروع اليساري كاملاً: مشروع تجاوز الرأسمالية نحو الاشتراكية بما هي نظام يبني نمط حياة جديداً وإنساناً جديداً. وللذين يقولون بأن هذا تجريب للمجرَّب يجيب المسرحي الألماني الكبير برتولد بريشت: مات بشر كثيرون وهم يحاولون الطيران. لكن هذا لم يمنع الإنسان من أن يطير في نهاية المطاف!
هذه طوبى؟ نعم. والطوبى هي محرّك التاريخ. هناك من يدعو إلى الطوبى الخلاصية الانتظارية، والوعود بالجنات في السماء. يقدّم اليسار طوبى الممكن. الجنة على الأرض. وقد باتت ممكنة لأن عالمنا ينتج ما يسد الحاجات الأساسية لجميع سكانه لولا التوزيع المتفاوت للثروات والموارد عن طريق مؤسسة الملكية الفردية وآليات السوق واستغلال الإنسان للإنسان. والطوبى هكذا تصوّر للمستحيل من أجل تحقيق الممكن.
و«غيِّر بالأحمر» يستدعي بناء قوى التغيير. أي تمثيل الفئات المهمّشة والمفقرة والمنتجة والشباب والنساء والحركات الاجتماعية والعمل على توحيد تحركاتها ونضالاتها وابتكار وسائل عمل جديدة. تكمن قوة الخصم في المال والقوة. وقوة اليسار في المعرفة والناس.
«غيِّر بالأحمر» يفترض استخلاص الدروس من التجارب. وأولى الدروس من التجارب الأخيرة: التخلّص من الأحادية البرلمانية. تزداد أهمية هذا الدرس إذا تذكّرنا أن الحزب مهووس، منذ اتفاق الطائف، بفكرة تكاد أن تكون وحيدة: إيصال مرشح له إلى الندوة البرلمانية بما هو مقياس رئيسي للإنجاز السياسي. يأتي الاحتفال بعيد الحزب على اثر انتخابات نيابية مثلت أسوأ أداء برلماني عرفه الحزب في تاريخه. لا معنى للوم قانون الستين أو النظام الطائفي على تلك النتائج. الأحرى قراءة الأداء البائس حيث صوّت إثنا عشر ألف ناخب بالورقة البيضاء، من غير ما حملة تدعو إليها، وأقل من ثمانية آلاف لمرشحي الحزب. هذا التصويت بمثابة إنذار للحزب حول ضعف الهوية واللون والرؤيا والسياسات. إنها رسالة تقول إن الحزب، الذي لم تصوّت له أكثرية أعضائه ومناصريه، ضعيف اللون، لا يقدّم اعتراضاً كافياً على السائد سياسياً ولا يحمل التمايز الكافي عن الكتلتين المتنافستين، خصوصاً أنه قرّر أن يخوض المعركة منفرداً بعد أن رفضت المعارضة أخذ مرشحيه الرئيسيَين على لوائحها.
دعوة لترميم اليسار؟ الأحرى لإعادة تأسيسه. أو البدء من البدايات. والبدء من البداية يعني المزج الخلاّق بين حكمة السنوات المتراكمة وحماسة البدايات!

السبت، 17 أكتوبر 2009

بين الحق الإنساني.. والحق الوطني الفلسطيني؟

سليمان تقي الدين
السفير 17 تشرين الأول 2009


انتصر مجلس حقوق الإنسان العالمي لشعب فلسطين مصدقاً على تقرير القاضي ريتشارد غولدستون، الذي أدان إسرائيل بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في عدوانها على غزة. مجلس حقوق الإنسان أقر إحالة التقرير إلى مجلس الأمن الدولي بأكثرية تشكلت من الدول العربية والإسلامية وعدم الانحياز. المسؤولون الإسرائيليون اعتبروا التقرير صفعة كبرى أفقدتهم أي اتزان فردوا مهددين بوقف عملية السلام التي لا نعرف عن مصيرها شيئاً منذ زمن بعيد. مندوبة إسرائيل ووزير الخارجية طمأنا إلى أن مصير التقرير سيحتجز في مجلس الأمن في محاولة للتخفيف من وطأة الحدث بدلالته التي تؤسس لمساءلة لا يمكن محوها. أهمية ما جاء في التقرير أنه أدان إسرائيل بجرائم الحرب المتعمَّدة ضد المدنيين. الإدانة الأخلاقية والإنسانية حصلت تلقائياً، لكن النتائج القانونية أهم وإسرائيل تعرف ذلك جيداً. لن يمر التقرير في مجلس الأمن ليحال على المحكمة الجنائية الدولية، هذا أمر ممكن ومعروف، برغم السابقة القريبة جداً حيث أحال مجلس الأمن جرائم إقليم دارفور السوداني إلى المحكمة الجنائية الدولية وتحركت النيابة العامة لملاحقة الرئيس السوداني. لكن الهيئة العامة للأمم المتحدة يمكن لها أن تتخذ قراراً بالإدانة، وهي قادرة على ذلك والتوازن السياسي داخلها يسمح إذا تحركت الدول المؤيدة للحق الفلسطيني. هذه الإدانة هي قيد قد يلجم الغطرسة الإسرائيلية التي تتصرف في القضايا السياسية، وخاصة بالحرب، وكأنها فوق القانون الدولي بقوة الأمر الواقع، لكنها هذه المرة ليست بعيدة عن مساءلة الرأي العام الدولي. إنما تقرير غولدستون هو وثيقة يمكن استخدامها من أي دولة عضو أو موقعة على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية (اتفاقية روما) لكي تحرّك الدعوى ضد إسرائيل وقياداتها. وهناك إمكانية لممارسة هذا الحق جزئياً أمام محاكم أوروبية عدة ضد بعض المسؤولين عن تلك الجرائم.
الارتباك تخطّى إسرائيل إلى قادة الولايات المتحدة والدول الأوروبية الذين خسروا الكثير من مصداقيتهم لأنهم طالما تحدثوا عن أمن إسرائيل وحقها بالدفاع عن النفس. الذرائع التي اختبأت خلفها السلطة الفلسطينية ورئيسها لتأجيل مناقشة التقرير، على فرض أنه يشير إلى وجود انتهاكات من الجانب الفلسطيني، انكشف زيفها. لا يمكن التضحية بمثل هذه السابقة الدولية لمصلحة القضية الفلسطينية ولو على المستوى الإنساني بمثل هذه الذرائع. السبب الحقيقي وراء موقف السلطة تهديد الإدارة الأميركية ونتنياهو لرئيس السلطة. ربما كان هذا مكسباً إضافياً من معركة التقرير إذا كان رئيس السلطة لم يعد طرفاً صالحاً للتفاوض لمجرد تأييده تقرير مجلس حقوق الإنسان عن جرائم ترتكب ضد شعبه، فهو ليس صالحاً لأي دور آخر.
ثمة مَن سعى في الغرب إلى إعطاء مهلة لإسرائيل لكي تطوّع الحقائق لمصلحتها. هناك قضية كانت موجعة أيضاً في التقرير أنه يذكر جرائم إسرائيل المتعلقة بسياسة الحصار وليس الأعمال الحربية المباشرة. وقد تعرّض لمسألة القدس. هذه إصابة سياسية غير متوقعة. ليست المشكلة مع غزة وحماس، هناك حقوق للشعب الفلسطيني تنتهك في كل مكان ووقت وهي متمادية ومستمرة.
مجلس حقوق الإنسان تعاطى مع شعب فلسطيني موجود تحت الاحتلال. هذه قضية ثانية مهمة. لم يلامس التقرير مسألة تقرير المصير وحق المقاومة اللذين هما من مقدمة ميثاق الأمم المتحدة، لكن التقرير يمهد لأي جهد عربي في استخدامه لاستنهاض القضية الوطنية على المستوى الدولي. المفارقة هنا أن إسرائيل والدول الداعمة لها يدركون معنى وأهمية التقرير لأنهم يشيعون ويدّعون إيمانهم بالديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان. على الأقل هذه عناوين مهمة في ثقافة شعوب الغرب ومادة للحوار معهم. أما العرب فلم يستوعبوا أهمية الحدث قبل حصوله. هناك مواجهة كبيرة لتطويق التقرير سياسياً من دول الغرب. لكن هذه مناسبة لشعب فلسطين والعرب لمحاصرة إسرائيل فلا ننحدر في التنازلات إلى حد أن نقايض حقوقاً معترفاً بها دولياً بوعود عن تجميد الاستيطان أو مجرد التفاوض.
انتصر الحق الإنساني في فلسطين بالتضحيات أمام القوة الهمجية، عسى أن نصحو على تجديد معركة الحقوق الوطنية.

الأربعاء، 14 أكتوبر 2009

الاحتقان الاجتماعي والاحتقان الطائفي - «مَن خصّه»؟

فواز طرابلسي
السفير 14 تشرين الاول 2009

«أنا ما خصّني»!
هذه هي آخر كلمات تلفّظ بها الشاب جورج أبو ماضي قبل أن يهوي ميتاً بطعنة سكين على باب منزله في عين الرمانة.
لسنا ندري أقالها الضحية بنبرة التبرّؤ أم التساؤل المستنكر، بمعنى «أنا شو خصّني؟». في الحالتين، أراد جورج أبو ماضي القول إنه لم يكن طرفاً في المعركة التي نشبت بين شباب من الشياح وشباب من عين الرمانة.
حقيقة الأمر أن جورج أبو ماضي، «خصّه». قُتل تحديداً لأنه يسكن منطقة معينة وينتمي إلى طائفة معينة. والذي قتله إنما قتله لأنه ينتمي إلى الجماعة ذاتها التي تشاجر القاتل أو القتلة مع واحد «منها». وينطبق هذا المنطق حرفياً في الحالة المعاكسة، أي فيما لو تمّ الشجار في الشياح وكان الضحية أحد شباب الضاحية الجنوبية.
بهذا المعنى ليست حادثة القتل في عين الرمانة الأسبوع الماضي بالحادثة الفردية تماماً. إنها أقرب إلى جريمة استبدالية قتَل فيها فرد نيابة عن أفراد من الجماعة التي ينتمي إليها (بالولادة).
مع ذلك، فالأحزاب المعنية المسيطرة على المنطقة التي يسكن فيها المتهمون بالقتل تقول لنا إنه «ما خصّها». سلّمت الأمر للسلطات الأمنية. وسارعت إلى نفي أي طابع سياسي عن الجريمة على اعتبار أن القتلة المفترضين والضحية (الذي صدف أنه عضو في التيار الوطني الحر) ينتمون إلى تحالف سياسي واحد.
من حسن الحظ، أن قوى الأمن اكتشفت القتلة بسرعة وألقت القبض عليهم. واتخذ مجلس الأمن المركزي للمناسبة قرارات بتقنين حركة سير الدراجات النارية ليلاً وضبط المخالفات. وهي إجراءات ضرورية بذاتها. علماً أنها لن تمنع شباب الشياح ـ عين الرمانة من أن يعبروا الشارع الفاصل بين الحيّين راجلين جيئة وإياباً، إذا اقتضى الأمر.
عند حدود الأمن والسياسة انتهى أمر حادثة عين الرمانة. لو أن اشتباكات من هذا النوع لم تتكرّر خلال الفترة الأخيرة لاكتفى المرء بتسجيل الحادثة. ولكن لما كان المصدوم في عين الرمانة يخاف من حادثة بوسطة، وجب التوقف لبرهة هنا ولو مجرد التفكير في الاحتقان الاجتماعي ودوره في تغذية الاحتقان الطائفي وصولاً إلى العنف.
يزيد من إلحاح الموضوع أن حادثة الشياح ـ عين الرمانة تزامنت مع تساقط قذائف الإنيرغا بين باب التبانة وبعل محسن في طرابلس. وهنا يصعب أن تكون الحادثة فردية. مع أن أي مواطن من مواطني هذا الحي أو ذاك يستطيع أن يسأل سؤال جورج أبو ماضي «أنا ما خصني»، متبرئاً من قصف الحي الآخر أو مستنكراً شموله بالقصف لمجرد أنه يسكن في الحي الذي يسكن فيه.
هل حقاً أن الأحزاب والزعامات في الحالين «ما خصّها» بما جرى؟ ومَن الذي أقنع جمهوره بأن هويته الوحيدة أنه ابن طائفة ومذهب؟ فسهل عليه إذا كان يشعر بالإحباط والتهميش أن يلقي باللائمة على سلاح الحزب الذي يدير شؤون الناس في الحي المقابل. وإذا كان يشعر بالحرمان الاجتماعي، أن يلقي باللائمة على أبناء الحي المقابل، على اعتبار أنهم من أصحاب الامتيازات. وماذا يملك الذين «خصّهم» أن يقدّموه تجاه تزايد الإفقار في الحيين الطرابلسيين؟ تفريغ المزيد من الشباب في الميليشيات؟ ومَن لم يجيّش بعد لنفسه ميليشيا هناك؟
خلال الأسبوع، كان الذين يفترض أنه «خصّهم» منشغلين بقضايا وطنية غاية في الخطورة، يضربون المندل في ما إذا كانت قمة دمشق بين سين وسين قد أقرّت توزير الراسبين في الانتخابات أم لا، وما إذا طاولت مَن سوف يتسلّم وزارة المواصلات أم لم تطاوله. وإذا ضرب المنادل يدور حول درجة الحرارة في لقاء رئيسي الدولتين بين «دافئة» و«فاترة».
والذين يفترض أنه «خصّهم» كانوا مشغولين هذا الأسبوع باللبنانيين المطرودين من اتحاد الإمارات العربية. وهي قضية تستحق كل الاهتمام. ولكن مَن يخصّه بالبحث عن إيجاد فرص عمل للشباب في بلادهم، حتى لا يبقوا على قارعة الطرقات، ويسندوا الجدران، يدمنوا الحبوب والمخدرات، ويلعبوا البينغو، ويتباروا في السرعة المجنونة على الدراجات النارية إلى حد القتل أو الانتحار، وينفسوا أخيراً عن كبتهم والحرمان بالعنف على الجار المختلِف؟
صدر هذا الأسبوع عن وزير الصحة تصريح مفاده أن الدواء تتحكّم به مافيات المستوردين. ليس من صلة مباشرة، سوف يقال لنا، بين أحداث الشياح ـ عين الرمانة وطرابلس وبين مشكلات الدواء. ومع ذلك، لنسجّل أن التهمة التي أطلقها الوزير مرّت كما لو أنها شأن خاص بالوزير أو مجرّد مقال صحفي. مَن «خصّه» بالنظر في تحكّم مافيات المستوردين والموظفين بالدواء؟ مَن «خصّه» أن لا يبقى الفاعل مجهّلاً؟ ومَن يتخذ بحق أفراد المافيات الإجراءات القانونية اللازمة؟ ولكن أليس التلاعب بصحة المواطنين جريمة يحاسب عليها القانون؟
بين الذين «خصّهم» مَن يعزّينا بأن لبنان مشروع ثقافي وأن اللبنانيين «من صخر وشذى أرز كفايتهم». يكفيهم أن بلدهم بلد الحوار بين الشرق والغرب، وبين المسيحية والإسلام وكفى المؤمنين شر السكن والماء والكهرباء والعمل والخبز والصحة والطبابة. وأما دولة بلد حوار الحضارات والأديان فلا تزال عاجزة عن جمع 14 من رجالاتها حول طاولة حوار للبحث في استراتيجية دفاع وطني، مثلاً.
الكل من الذين «خصّهم» ينعى غياب الدولة والكل يريد بناء الدولة. والكل فوق ذلك يريدنا أن ننسى أنهم هم، رجالاً ونساءً، هم الدولة. الدولة التي ما خصّها بشيء. تستدين من الخارج لتفي ديون بضعة مصارف تتضخم فيها الودائع والأرباح الفلكية. الدولة المتخلية عن الاقتصاد للمستوردين والمصرفيين، وعن التنمية للسوق، وعن الأحوال الشخصية للطوائف، وعن إيجاد فرص العمل للهجرة، وعن الخير العام للجمعيات الخيرية والمنظمات الأهلية، والمتنازلة دستورياً (البند العاشر) عن دورها في تحقيق تكافؤ الفرص بين المواطنين من خلال تخليها عن مجانية التعليم وإلزاميته لمصلحة الإرساليات والمدارس والجامعات الدينية الخاصة.
هكذا الذين يحكمون يتذمّرون من الدولة، التي هي هم، أكثر من تذمّر المحكومين. يغيّبون الدولة في ميدان المسؤولية والمحاسبة ويستحضرونها في ميدان التسابق على الانتفاع والقمع. والذين «ما خصّهم» من المحكومين يقتلون على الهوية. لأنه «خصّهم» بسبب وصمة الولادة التي يحملون في الاسم والحي والمنطقة واللهجة واللباس. والامتيازات الصغيرة بين الفقراء ومحدودي الدخل، كالتي بين التبانة والبعل، والشياح والرمانة، والضاحية وطريق الجديدة، والجنوب وعكار، تخفي الامتيازات الكبيرة بين الأغنياء والفقراء. والفقراء والمحكومون يتقاتلون بين الفينة والأخرى من أجل تحسين شروط المنافسة والشراكة بين الأغنياء والحكام.
أما آن للذين خصّهم فعلاً أن يفعلوا شيئاً؟!

الثلاثاء، 11 أغسطس 2009

مأزق اليسار وعباءة البيك

خالد صاغية

الأخبار عدد الثلاثاء ١١ آب ٢٠٠٩


يبدو أنّ خطوة وليد جنبلاط الأخيرة لم تحدث تغييرات في الوضع السياسي العام وحسب، بل أصابت أيضاً القوى اليسارية التي بدأ النقاش داخلها بشأن الانعطافة اليساريّة للبيك. وقد دغدغ البعض حلم إعادة إنشاء الحركة الوطنيّة، ما دام رئيسها السابق الذي ورثها عن والده مستعدّاً لإعادة تحمّل مسؤوليّة ميراثه. لكنّ اليسار الذي فضحته الحرب الأهليّة، وعرّته مرحلة السلم الأهلي، وكادت تدفنه الانتخابات الأخيرة، يبدو في مأزق أعمق من قدرة أيّ خطوة ارتجاليّة على إعادة إحيائه، وذلك لأسباب عديدة، هذا بعضها:
ـــــ لم ينجز اليسار أي عملية تقويم لتجربة الحركة الوطنية. لا بل يصرّ كثير من اليساريّين على اعتبار البرنامج المرحلي للحركة لا يزال صالحاً للتطبيق اليوم. وحتّى حين لا يعلنون ذلك صراحةً، فإنّ خطابهم لا يشذّ عن كونه مقتطفات عشوائيّة من ذاك البرنامج.
ـــــ لا يملك اليسار أيّ تصوّر لعمله في نظام طائفيّ. ولا تزال الرؤية اليساريّة لهذا الموضوع تتأرجح بين حدّين خطرين. الحدّ الأوّل يعدّ الجماهير مضلّلة سيأتي يوم تصحو فيه من وعيها المزيّف فتنصرف إلى النضال الطبقي الذي يعوقه الآن الوعي الطائفي. وينصرف أصحاب هذا الرأي، بدورهم، إلى انتظار ذاك اليوم المجيد بفارغ الصبر. أمّا الحدّ الثاني، فيضع المسائل الطبقيّة جانباً، ملخّصاً العمل اليساري بالتبشير بالعلمانيّة، وغالباً ما تكون علمانيّة من النوع المتخيَّل الذي لا وجود له حتّى في البلدان التي عُقدت فيها تلك الصفقة بين الدولة والكنيسة.
ـــــ تورّط اليسار في أنماط تفكير وتبنّي مصطلحات أصبحت نتائجها الكارثيّة واضحة على الفئات التي يفترََض أنّه يدافع عن مصالحها، لكنّه لا يزال يجد صعوبةً في التخلّي عن خطابه القديم. خُذ التنمية مثلاً. هذه مفردة لا تزال ترد على لسان اليساريّين كما لو أنّها زبدة النضال، فيما غالباً ما ارتكبت جرائم بحق المستوى المعيشي لعامّة الناس باسم المشاريع التنمويّة.
ـــــ عدّ اليساريّون أنفسهم روّاد الحداثة، وفي الوقت نفسه رأس حربة النضال ضدّ الاستعمار والإمبرياليّة. وهذه وصفة لا يتمنّاها المرء لأحد، بعد التحوّلات التاريخيّة التي بدأت تظهر منذ السبعينيات. ولم تكن الصدفة وحدها ما رمى نصف اليساريّين في حضن الليبراليّة، ونصفهم الآخر في حضن الإسلاميّين، وخصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتراجع الأحلام الأمميّة، تماماً كما لم تكن الصدفة هي التي جعلت اليسار اللبناني موزّعاً بين 8 و14 آذار.
إنّ المزاوجة بين العجز عن إنتاج فهم للواقع ولغة لتغييره، والعجز عن النضال السياسي اليومي، وصلت إلى مداها الأقصى. وهذا قعر لا تفيد للخروج منه أيّ عباءة، حتّى ولو كانت عباءة بيك.


الاثنين، 22 يونيو 2009

«إن عشقت اعشق قمر، وإن سرقت اسرق جمل».

ضحى شمس *

الانتخابات الأخيرة في لبنان مثال على صوابية هذا المثل السائر الذي يُقال في معرض نصح من يريد السرقة، (لاحظوا تعاطفنا الشعبي التاريخي مع اللصوص) أن يصوّب عالياً، لأن الرائي لن تخطر بباله ضخامة السرقة، أو وقاحة السارق في التبختر بجمل مسروق أمام الجميع. و«الجمل» في الرواية الانتخابية اللبنانية الأخيرة، هو الرشوة التي كان حجمها بالحقيقة معادلاً لقافلة من الجمال والإبل. قافلة أدخل بواسطتها اللبنانيون، بحنكتهم المعهودة، «أغنياءهم» من خرم أبرة صناديق الاقتراع، إلى ملكوت السلطة السياسية، من دون أن تلحظها أيّ من عيون لجان مراقبة الانتخابات الأميركية أو الدولية أو المحلية أو الأوروبية أو العربية أو التركية أو حتى وزارة الداخلية، المعتادة تاريخياً على هذا النوع من النشاط «الوطني». مع أن تلك اللجان سرحت منذ ما قبل الانتخابات، كما يسرح البزاق بعد المطر في ربوعنا، مفاجئة المتابع بعدد المتطوعين فيها، وبتعدد تمويلها، وبقلة ثقة مرجعياتها الواحدة بالأخرى ـــــ بدليل إرسال كل منها لجنتها الخاصة ـــــ وبوتيرة نشاط طمأن في البداية المواطن العادي، إلى أنه لا شيء سيمر من تحت أنفها و«السما زرقا».
وبما أنه لـ«السما الزرقا» خبرة بمواضيع القوافل والجمال، فقد مر الأمر برشاقة منقطعة النظير. وهي رشاقة حسدهم عليها بعض أتباع الألوان الأخرى، ممن رشوا وارتشوا بأشكال متعددة، مع أنهم بدوا بالمقارنة، حديثو النعمة في ملكوت فاسدي لبنان.
كلام كثير كتب وقيل عن الرشى الانتخابية، لكن معظمه كان «غائماً» من دون تفاصيل. لم يثبت أحد على أحد شيئاً. لم يشهد أي شاهد بأي شيء، مع أن التداول بالأمر بلغ حداً نشرنا معه في «الأخبار» ما يشبه التسعيرة تبعاً للمناطق التي ستشهد معارك على تمثيلها، ومع أن هذه المخالفة هي الأكثر توقعاً وحصولاً في الاستحقاق الأخير، ومع أنّ لمراقبينا باعاً طويلاً في المراقبة (انظر جيمي كارتر صاحب الشهادة الوحيدة الإيجابية بانتخابات «حماس»)، فإنه لا أحد قبض على أحد بحادثة رشوة، لا بل إن الجميع أعلن قبوله بنتائج الانتخابات. هكذا، مرت مقالة في الـ«نيوزويك» للصحافي كريستوفر ديكي (عدد 9حزيران) تحدثت عن تمويل سعودي للحملة الزرقاء فاق بحجمه تمويل حملة باراك أوباما شخصياً، من دون أن يقتبس أحد منه شيئاً، لا الصحافة ولا المراقبون. لماذا؟ الجواب ببساطة: لأن فساد الناس أصبح عاماً أكثر من أي وقت مضى. هناك تواطؤ على الفساد «حكومة وشعباً» باعتباره «موسماً للاسترزاق». وهو موسم يجري خلاله تنفيس احتقان الحرمان الذي تسببه سياسات الدولة الليبرالية المتوحشة، بما لا يزعج بنيتها بل يعززها.
هكذا، يتيحون بأنفسهم مواصلة حرمانهم بانتظار موسم «الاسترزاق» المقبل، والاستحقاق البلدي ليس بعيداً. لقد أصبح الفساد بنية بديلة للدورة الاقتصادية، ولعلاقة اللبنانيين بدولتهم، كذلك فإنّ مجلس الإنماء والإعمار بديل لوزارة التخطيط، ومولّد الكهرباء بديل للتيار الرسمي، والقطاع التربوي الخاص أصبح بديلاً للقطاع الرسمي (لمن استطاع إليه سبيلاً) وبتواطؤ من نوليه عليه، برغم تعارض مصالح مؤسساته الخاصة التربوية مع مصلحة المدرسة والجامعة الرسمية.
لقد وصل التواطؤ بين المرتشي والراشي، وكلاهما يعاقبه القانون، إلى حد الإجماع الوطني. أي إن عدد الموافقين على الرشوة الانتخابية قد يفوق عدد المتفقين على نهائية لبنان وطناً لأبنائه. أي إنّ الرشوة الانتخابية ليست فقط مقبولة، بل منتظرة ومتوقعة ومنتشرة، ما يجعل المرء يعيد النظر بتصنيفها. فإن كان شعب بكامله، أو لنقل بأغلبه، فاسداً، فمن يقرر تصنيف الرشوة مخالفة؟
أما القصة الوحيدة التي خرجت للعلن بموضوع الرشى، فقد كانت دليلاً على ما نقول. فالرجل الذي اتهم النائب إبراهيم كنعان بالرشوة، كان يتهمه من باب أنه لم... يفِ بتعهداته المالية، لا من باب انتقاد الفساد، لا سمح الله أو غادة عيد.
هذا التواطؤ جعل شخصاً مثل خوسيه إيغناسيو سالافرانكا، رئيس البعثة الأوروبية لمراقبة الانتخابات، يرد على سؤال عن ممارسات الرشوة الانتخابية، بأن هذا الأمر، اسمعوا جيداً، «تقليد لبناني». وبما أنه تقليد، فإن سالافرانكا، بحرصه على مراعاة «الإتيكيت»، لم يتدخل حتى لمجرد الطعن بصحة الانتخابات التي أتى لمراقبتها.
أما لو كانت المعارضة هي الرابحة؟ فهل كان سالافرانكا ليقول ما قاله؟ قد تكون الإجابة المرجحة أقرب لإجابة راقية إبراهيم الشهيرة لعبد الوهاب: بالطبع لا.
اللبنانيون فاسدون ومفسدون أكثر من أي وقت مضى. يريد اللبناني أن يتوظف بالدولة «لأنه ما بتشتغل شي والعطل كثيرة»! وبالطبع لا يمكن أن «يشحطوك» منها لأنك ممثل الطائفة فيها، ما سيجبرهم على طرد موظف من طائفة أخرى وإلا فالكلام سيتصاعد عن التوزان والتجني... ولكل طائفة عدتها من «المخاوف» الوطنية.
أما حين يتخرج «الصبي»؟ فإن «كونسلتو» العائلة يجتمع بقضه وقضيضه، ويجري التباحث في أفضل السبل لاقتحام «مصلحة الجمارك» مثلاً، أو «تزبيطه» أي توظيفه، في «النافعة» أي مصلحة تسجيل السيارات. أما لماذا هذه المصالح دون غيرها؟ «ولو؟ فيها براني» يقولون لك. وما هو البراني؟ هو باختصار المال الذي يمكن الموظف تحصيله من خارج المعاش... لكن أثناء الدوام. أي إنه أحد أسماء الرشوة الحسنى. وهي أسماء نصرفها يومياً في كل مرافق حياتنا العامة اللبنانية لكي تمشي. هكذا تبدو البلاد مصممة، بالأصل، بالمنشأ، للواسطة والرشوة، وتبدو الأمور عاجزة عن التصريف إذا لم يمشِّها «فلان» أو يزبطها «علّان»، لا بل إن الناس نسوا حتى ما هو القانون الذي تخالفه.
لم يعد «مكره أخوك لا بطل»، بل أصبح بطلاً، وببطولة مطلقة. بطولة إعجازية، حصرية، تجلت في فيلم الانتخابات الأخيرة: بطولة ملأت الشاشات لدرجة أن لا أحد لاحظها. أن تتسع ممارسات الرشوة لدرجة تصبح هي القاعدة لا القانون. أن تسرق جملاً، وتعبر فيه برشاقة راقصة بولشوي، أمام أصحابه، وهم يحيونك ويدعونك لشرب القهوة. هذه هي الشطارة، والشطارة كما تعلمون قيمة لبنانية بامتياز.
في نهاية اليوم الانتخابي الطويل، عدت إلى البيت، فلمحت ناطور البناية جالساً كعادته على كنبته. استغربت أنه هناك مع أن اليوم يوم عطلته، وفوق الدكة انتخابات، فسألته إن كان انتخب؟ فرد وهو يكنس الهواء بظاهر يده: «لشو؟ ما حدا إجا صوبنا ولا قلنا بأديش الكيلو؟ عمرو ما يكون». «على رأيك»، قلت في نفسي. لا بل قلت له ذلك بصوت عال!
* من أسرة الأخبار

اليسار اللبنانيّ والانتخابات : الأبيض لوناً من ألوان التغيير

سماح إدريس *


بعد انقضاء أكثر من ثلاثة أسابيع على الانتخابات النيابيّة اللبنانيّة، ما زالت التحليلاتُ تتوالى عن أسباب خسارة المعارضة وفوز الموالاة. ثمة فريقٌ من المعارضة لا يَعتبر أنها هُزمتْ أصلاً؛ وهذا ما قد يسمّى في التحليل النفسيّ «حالةَ إنكار». وثمة مَن يعتبره «مقصوداً» لإبراز عدم تدخّل سوريا، أو لخشية حزب الله من أن يكون في الواجهة الرسميّة في المرحلة المقبلة «المحفوفة بالمخاطر الإسرائيلية ــــ الأميركيّة».

■ ■ ■

مهما يكن الأمر فإنني، بصراحة، لم أذرف الدمعَ السخينَ لخسارة المعارضة. فعلى إجلالي للمقاومة، وتأييدي الحاسم لها ولسلاحها، ولبقائهما إلى ما بعد بعد تحرير شبعا والغجر (نعم، حتى تحرير فلسطين والجولان)، فإنني لا أرى فارقاً كبيراً بين المعارضة (في جسمها الرئيس ممثَّلاً بحزب الله والتيّار الوطني الحرّ) والموالاة. وقد كتبتُ في هذا الموضوع غيرَ مرّة (راجع مثلاً مقالي في جريدة الأخبار في 28/12/2008)، وأُوجزُ عيوبَ المعارضة في العناوين السريعة التالية: التشدّق الكلاميّ بالرغبة في بناء «الدولة» في مقابل التقوقع العمليّ في الأطر الطائفيّة، وعدمُ التأسيس للعلمنة الشاملة، وإهمالُ الحقوق المدنيّة للشعب الفلسطينيّ في لبنان. لكنّ ما أحزنني فعلاً هو النتائجُ الهزيلةُ التي حصدها «اليسارُ» في هذه الانتخابات، وتحديداً حركة الشعب في بيروت، والحزب الشيوعيّ في غير مكان، والتنظيم الشعبيّ الناصريّ في صيدا، حتى بلغ الفارقُ بين بعض مرشّحي اليسار ومرشّحي اليمين أكثرَ من... خمسين ألف صوت.

■ ■ ■

بدايةً، أشعر أنّ اليسار خسر المعركة «المبدئيّة» قبل أن يخوض المعركة الفعليّة. رُبّ قائلٍ إنّ المعركة الانتخابيّة ليست معركةَ مبادئ. ولكنّ هذا القولَ، ببساطة، على خطأ. ذلك أنّ الانتخابات هي، في واقع الأمر، من أكثر أشكال المشاركة السياسيّة علنيّةً. ومن ثمّ، فإنها امتحانٌ فعليّ وعلنيّ لصلابةُ المرشّح (ولا أقول تحجّره)، ولمدى انسجام أفكاره مع أفعاله. إنّ إشعاع المبادئ والمُثل، في معركة الانتخابات تحديداً، يجب أن يكون أحدَ أهمّ أسلحتنا في مواجهة الانتهازيّة وسوء استخدام الأفكار الكبرى.
لقد رفض اليسار قانون الستّين لأنه، بحقّ، قانونٌ متخلّفٌ يَضْرب عرض الحائط بمطالب القوى الوطنيّة والتقدميّة المزْمنة، وأهمُّها: التمثيلُ النسبيّ، ومشاركةُ الشباب بدءاً بسنّ الثامنة عشرة اقتراعاً وترشّحاً، واعتبار لبنان دائرةً انتخابيّةً واحدةً بما يتيح للأكفأ حقّ التمثّل في الهيئة التشريعيّة. لكنّ هذا اليسار سرعان ما هرول إلى خوض الانتخابات، وسطَ استغراب مناصريه وذهولهم واستنكارهم أحياناً: فكيف يرضى يساريّ أن يواصل الترشّح سنوات بعد سنوات عن المقعد «الشيعيّ» أو «السنّيّ» على سبيل المثال لا الحصر؟ بل تناهى إلينا أنّ قسماً من اليسار سعى أوّلَ الأمر إلى أن «يتكرّمَ» عليه معسكرُ المعارضة الملتبسة بمرشّح على لائحته؛ حتى إذا استُبعد، ارتدى زيَّ المبادئ القويمة، وتباهى بالترشّح... منفرداً!
وفي كلّ الأحوال، فلو أنّ اليسار ثَبَتَ على موقفه المبدئيّ منذ البداية، رافضاً دخول معمعة الانتخابات المبنيّة على الطائفيّة والزبائنيّة (الداخليّة والخارجيّة)، لعَزّز ــــ في أقلِّ تقدير ــــ رؤيةََ الناس إليه بوصفه بديلاً حقيقيّاً أو محتمَلاًً، لا يفتّش عن المناصب كيفما أتت. وللمرء أن يتساءلَ، في هذا الصدد، جملة تساؤلات:
أصلاً، ما معنى أن يفوزَ اليسارُ بمقعد أو اثنين، إذا انثلمتْ ثقةُ مناصريه بمبدئيّته، أو شكّكوا في استقلاله الذاتيّ عن الاستقطابات كلها؟ وما تراه سيفعل اليومَ لو فاز، وهو شبهُ أعزل، في مجلس يكتظّ ــــ أكثرَ من أيّ وقت مضى ــــ بالطائفيين والمذهبيين والإقطاعيين والرأسماليين وأمراء الحرب السابقين والإمّعات، غيرَ الصراخ بلا طائل؟ ثم ألن يأتي فوزُه الهزيلُ نفسُه مَديناً لأصوات حزب الله أو التيّار العونيّ، لا لقاعدة اليسار الوطنيّ والقوميّ (المشتّتةِ لأسباب كثيرة)، بحيث يغدو رفيقُنا، النائبُ العتيدُ، «لاجئاً سياسيّاً» عند ذلك الحزب أو هذا التيّار، أسوةً بالياس عطا لله اللاجئ السياسيِّ عند آل الحريري (مع الفارق الشاسع، طبعاً، بين الحريري «السلاميّ» وحزب الله المقاوم)؟
ألن يَصْعب عليه، أخلاقيّاً في الحدّ الأدنى، أن يتّخذ موقفاً موضوعيّاً ومستقلاً إزاء أيّ قضيّة لا تحظى ببركة «الحزب» أو «التيّار»، وإلاّ عُدّ خائناً لمن أوصله إلى الندوة البرلمانيّة، كما هو حالُ بعض النوّاب الذين جاؤوا عام 2000 على القاطرة الحريريّة ثم انقلبوا عليها، فاستحقّوا لعنةَ الحريريين؟
باختصار، افتقر اليسارُ في هذه المعركة إلى شيء من مبدئيّته (ومن مثاليّته؟ بالتأكيد! ومَنْ قال إنّ المثاليّة أمرٌ معيب، أو غيرُ قابل للتحقّق، ولو بعد حين، إنْ ثَبَتَ المرءُ عليها؟). الحقّ أنّ المبدئيّة هي من أكثر ما يَنْشده، في المرشَّح، عددٌ كبيرٌ من الطلاب والمثقّفين والفنّانين والمحامين وأساتذة الجامعات والناشطين في مؤسّسات المجتمع الأهليّ و«المتردّدين» (والأخيرون بمئات الآلاف).
لقد انجرّ اليسارُ إلى ملعب اليمين والطوائف، بعدما تيقّن من فشله في تغيير القانون الانتخابيّ المتعفّن، فانزلق في الانتخابات، بحساباتها وأرقامها المضلّلة وتكتيكاتها التي لا قدرة له عليها. وكان أجدى به أن يجترحَ وسائلَ أحدثَ وأكثرَ إبداعاً للوصول إلى الناس مباشرةً، بدلاً من محاولة الوصول (شبه) المستحيل إلى البرلمان من أيّ طريق كان.
وزاد الطينَ بلّةً أنّ اليسار، بعدما حزم أمرَه بخوض الانتخابات على أساس لامبدئيّ وغير مقْنع، قد خاضها بعدّةٍ هزيلةٍ لا تَضْمن له إلاّ الخسارةَ... غيرَ البطوليّة: فقانونُ الستين ضدّه، والموالاةُ ضدّه، وجمهورُ الطوائف كلّه ضدّه، والمعارضةُ الملتبسة نفسُها ضدّه (وإنْ على استحياء وخَفر)، والمالُ السياسيُّ ضدّه، ورجالُ الدين ضدّه (إذ لا بطريركَ لليسار اللبنانيّ يَحْقنه بجرعة فياغرا، كما حقن بطريركُ الموارنة، المكتظُّ بعروبته المفاجئة، معسكرَ 14 آذار)، والأنظمةُ الرجعيّةُ العربيّةُ ضدّه. يضاف إلى ذلك أنّ النظام السوريّ نفسَه بدا بالغَ الحرص على «تسوية» مؤتمر الدوحة بين الموالاة والمعارضة؛ بل ظهر أنه لم يحرِّضْ بعضَ الجماعات التي «يَمون» عليها في لبنان على التصويت لليسار، ولم يَدفعْ (كعادته؟) بآلاف «المجنّسين» اللبنانيين القاطنين في البلدات السوريّة إلى الذهاب للتصويت الكثيف في لبنان لمصلحة هذا اليسار المأزوم في غير موقع.

■ ■ ■

إذاً، لم يكتفِ اليسارُ بإهدار شيء كبير من مبدئيّته حين انخرط في قانون جائر سبق أنْ رفضه بحزم، بل أخطأ أيضاً في حساباته ورهاناته السياسيّة، فاستحقّ (للأسف) هزيمةً كبرى. فقد راهن على أن تَحْشد المعارضةُ الملتبسة، وبخاصّة حزب الله والعونيّون، أنصارَها دعماً له. وقد تبيّن في 7 حزيران أنّ «دعمَ» المعارضة لليسار اقتصر، في أحسن الأحوال، على «رفْع العتب».
خذْ دائرة بيروت الثالثة مثلاً: فهنا لم يَقترع «الشيعةُ» (وجُلّهم من المعارضة) إلا بنسبة لا تتجاوز 40% تأييداً للائحة «قرار بيروت الوطنيّ» المدعومة من حركة الشعب! وربّ قائلٍ إنّ هذه نسبةٌ مرتفعة، لكنها في الحقيقة ليست كذلك، ولا تعبِِّّر عن شغفِ حزب الله بأعضاء اللائحة المذكورة (وضِمْنهم الرفيقان نجاح واكيم وإبراهيم الحلبي والزميل رفيق نصر الله). طبعاً لم يكن ممثّلا حركة الشعب وحلفائها سيرْبحون في كلّ الأحوال، نظراً إلى تعاظم التجييش المذهبيّ والمال الانتخابيّ وعوامل أخرى يضيق بها هذا المقال. ولكنْ أن يصوِّتَ لهم 22 ألفاً من «شيعة المعارضة» (أيْ 70% من شيعة هذه الدائرة) بدلاً من 12 ألفاً مثلاً، فذلك سيكون أقلَّ وطأةً عليهم، وأحفَظَ لماء وجه اليسار الوطنيّ والقوميّ الذي كان ــــ للتذكير ــــ أبرزَ حلفاء حزب الله أثناء عدوان تمّوز 2006 وبعده وقبله! والحال أنّ خطأ بعض اليسار في المراهنة على الأرقام والاستطلاعات «الموثّقة» قد أحبط اليومَ آلافَ الشباب المتطلّعين إلى التغيير. كما أنّ رهانَه على دعم المعارضة الملتبسة لا يُغتفر: فقد سبق أنْ لُدغ من جحْرها مرّتين على الأقلّ (في الانتخابات النيابيّة والبلديّة قبل سنوات قليلة)، وكان يُفترض أن يعي أنّ الثالثة... ثابتة!

■ ■ ■

ولنعترفْ، أيضاً، بأنّ بعضَ اليسار (والمعارضة الملتبسة) لم يقدِّمْ أحياناً نماذجَ تستحقّ أن تكون بدائلَ فعليّةً من مرشّحي الموالاة المنافسين. وذلك، في رأيي، أحدُ أسباب عدم اجتذاب يسارنا للكتلة «المتردّدة» الضخمة. تُرى، ما الذي يَجْمع مناضلاً شيوعيّاً نزيهاً ومناضلاً ناصريّاً علمانيّاً عريقاً بممثّلين عن الطوائف والإقطاع العائليّ... في لائحة «معارضة» واحدة؟ ومَنِ استمع إلى خُطَب بعض مرشّحي حلفاء حركة الشعب على لائحة بيروت الثالثة مثلاً، أَدركَ سريعاً أنهم لا يستحقّون أن يَبذل الإنسانُ العاديّ كبيرَ جهد لدعمهم. تصوّروا أنّ أحدَهم صَرف جزءاً من خطابه لشتم الشعارات العامّيّة للموالاة من قبيل «ما بيرجعوا والسما زرقا» (قائلاً بصوتٍ جهير: «العامّيّةُ ليست منّا ولسنا منها»)، ولرجْمِ «الدعارة» في لبنان، وكأنّ مشكلةَ بلدنا هي مع العامّيّة والمومسات! وتصوّروا أنّ مرشّحاً آخر أَقرّ على إحدى المحطّات التلفزيونيّة بأنه كان يأمل أن «يأخذَه» سعد الدين الحريري على لائحته! وهناك أكثرُ من مرشّح مدعوم من اليسار يخْطئ في قواعد العربيّة أكثرَ ممّا يخطئ الحريري وكارلوس إدّة (مَنْ قال، بالمناسبة، إنّ اللغة الصحيحة والثقافة الراقية هما خارجَ معايير النائب الجيّد، أو إنّ باكويّة آل فرنجيّة وطائفيّةَ وليد جنبلاط وعنصريّةَ آل الجميّل وهضمنةَ مصطفى علّوش وجمالَ مصباح الأحدب وشراسةَ علي عمّار وأموالَ محمّد الصفدي... أهمّ؟).
على مَنْ يريد أن يَهزم الحريري والسنيورة، وأمثالَهما من حيتان المال والضرائب والرجعيّة، أن يأتيَ بنماذجَ أفضلَ بكثير: موقفاً، وتاريخاً، وتحليلاً، وتقدّميّةً... ولغةً.

■ ■ ■

علاوةً على ما سبق، فقد خاض اليسارُ معاركه الانتخابيّة مفكّكاً، بدلاً من أن يخوضَها في لوائحَ (أو لائحة) موحّدة في طول البلاد وعرضها. وقد كان رأيي الشخصيّ قبل شهور أن يخوضَها بأوراق بيضاء، شجباً للقانون الانتخابيّ الرثّ، ولا سيّما أنّ هذه الأوراق باتت تُحتسب عند الفرز (ولم أكن أعلمُ ذلك حين أدليتُ بصوتي!)، وصار في مقدور مَن يَعتبر نفسَه خارجَ الاصطفافات الطائفيّة والزبائنيّة أن يدليَ بصوته الأبيض الناصع الشاجب للّعبة التزويريّة برمّتها. بمعنًى آخر، كان على اليسار أن يمثّل رأسَ حربة لمقاطعة هذه الانتخابات: فيسيّر المسيرات، وينظّم الاعتصامات، ويجْمع التواقيعَ الكثيفةَ على العرائض (كان الرفيق ألبير فرحات قد صاغ إحداها في الدعوة إلى قانون انتخابيّ بديل)، وينقلَ المعركة من مستوى التراشق الإعلاميّ بين المرشّحين إلى مستوى الجامعات والثانويّات والمنظّمات الشبابيّة والمنابر الثقافيّة... والسلك القضائيّ (إذ إنّ قانون الستّين، كما بات معروفاً، مخالفٌ لاتفاق الطائف الذي نصّ على أنْ تجري الانتخاباتُ على أساس المحافظة لا القضاء).
نعم، كان على اليسار في الانتخابات الأخيرة أن يقفَ إلى جانب (بل أمام) ما يزيد على 11 ألف ورقة بيضاء يحْلم أصحابُها بتمثيل ديموقراطيٍّ حقيقيٍّ، قائم على النسبيّة. الورقة البيضاء كانت ورقة موقف لا قعود، ومواجهة لا استسلام لمنطق «لبنان هيك». ورُبَّ ضارّة نافعة: فلعلّ الصفعة الانتخابيّة الجديدة التي تلقّيناها، كيسار وطنيٍّ وقوميٍّ وعلمانيٍّ داعم للمقاومة الشاملة، أن تدفعنا إلى أن نغيّر مسارَنا، فنستندَ اليوم وفي الغد إلى تلك الأصوات الناصعة التي تؤشّر على حالات متنامية من القرف... والرغبةِ العنيدةِ في التغيير الجذريّ.
* رئيس تحرير مجلة الآداب
(يُنشَر هذا المقال في العدد المقبل من المجلة)


الأخبار عدد الجمعة ١٩ حزيران ٢٠٠٩

الخميس، 2 أبريل 2009

بيـــــــان للشعـــب اللبنانـــــي

عيب
- 28.6 % من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر بأقلّ من 4 دولارات يومياً.
- 51.9 % من الأسر اللبنانية لا تكفيها مداخيلها الشهرية لتغطية احتياجاتها الاستهلاكية.
- 30.9 % من المقيمين في لبنان يعانون أوجُه حرمان مختلفة، ولا سيما خارج المدن.
- 51 % من المواطنين غير مشمولين بأيّ شكل من أشكال التغطية الصحية الدائمة.
- 75 % من القوى العاملة المحلية لا تشملهم أنظمة التقاعد والحماية الاجتماعية.
- 40 % من الأجراء غير نظاميين ولا تُطبّق عليهم قوانين العمل والأجور والضمان.
- 45 % من الناشطين اقتصادياً لا توجد لهم وظائف في لبنان.
- 35 % من اللبنانيين العاملين اضطرّوا إلى الهجرة بحثاً عن فرص العمل.
- 0.05 % من السكّان يستأثرون بأكثر من 34 مليار دولار (45%) من الودائع المصرفية.
- 60 مليار دولار حجم دين الدولة الفعلي وهو الأعلى على المستوى العالمي قياساً إلى الناتج المحلي.
- 90 % من الضرائب والرسوم تُستخدم في تمويل الفوائد التي يستفيد منها الأثرياء.
- 38 مليار دولار سدّدها المقيمون بين عامي 1993 و2008 لخدمة الدين العام بمعدّل وسطي قيمته 9500 دولار من كل فرد.
وسيضاف في هذا العام 1080 دولاراً لتسديد 4.3 مليارات دولار كأرباح للمكتتبين في الدين العام.
- 50 % من اللبنانيين لا يستهلكون إلا 20% من فاتورة الاستهلاك على المستوى الوطني، فيما 20% يستهلكون نصف هذه الفاتورة.
- 102 % قيمة فاتورة الاستهلاك قياساً إلى الناتج المحلي الإجمالي (الإنتاج أقل من الاستهلاك) .
- 12.8 مليار دولار عجز لبنان التجاري والصادرات (3.4 مليارات دولار) لا تغطي إلا 20% من المستوردات (16.2 مليار دولار).
- 8 ساعات تقنين في اليوم بعد عقد ونصف من إطلاق مشروع إعادة تأهيل قطاع الكهرباء وإنفاق مليارات الدولارات على التجهيز والدعم. ويُتوقع أن يرتفع معدل التقنين إلى 16 ساعة في اليوم بعد 5 سنوات.
- 70 % من اللبنانيين لا يستفيدون من خدمات الاتصالات نظراً لكلفتها الخيالية، ولا تزال كلفة الاتصال الخلوي من أعلى الأكلاف عالمياً، على الرغم من خفضها أخيراً وهي أصبحت بمثابة ضريبة لا سعراً مقابل خدمة.
- 50 % من سعر صفيحة البنزين هو عبارة عن رسوم وضرائب تجبيها الحكومة على الرغم من أنها لا توظّف أي قرش في إنشاء نظام مقبول للنقل العام.
- 66.66 % من السلع والخدمات في الأسواق المحلية تخضع للاحتكارات.
- 16 % فقط من المهجّرين عادوا إلى قراهم على الرغم من إنفاق 1.6 مليار دولار على التعويضات (65% منها للمحتلّين).
- 15 % هي نسبة الضريبة على القيمة المضافة التي التزمت الحكومة باعتمادها في برنامج باريس 3، بالإضافة إلى زيادة رسوم البنزين (من دون الضريبة على القيمة المضافة) إلى 12 ألف ليرة على كل صفيحة، على أن يتم تجميد الأجور وتفكيك الضمان الاجتماعي وبيع الهاتف والكهرباء... والحبل على الجرار!
كل هذه النسب والأرقام «رسمية 100%»، وهي واردة في تقارير حكومية، ولا تشكّل إلا عيّنة بسيطة عن الواقع المالي والاقتصادي والاجتماعي في لبنان بعد 16 عاماً من هيمنة «الحريرية» على القرار السياسي ـــــ الاقتصادي بدعم من معظم مكوّنات الطبقة السياسية الحالية (ولا سيما تيار المستقبل ـــــ حركة أمل ـــــ الحزب التقدمي الاشتراكي...) ومعظم مافيات القطاع الخاص (المصارف، شركات النفط، الكسّارات، سوليدير، الشركات العقارية، المقاولون، محتلّو الأملاك العامة البحرية والنهرية، المستشفيات، شركات الأدوية، المدارس الخاصة، أصحاب الوكالات التجارية الحصرية، المطاحن والأفران...)
بعض السياسيّين لا يقيم أي اعتبار لمفهوم «العيب»، وهذا ينطبق على من يحذّر اليوم من أن الاقتراع لفريق معين يعني الخراب... وكأنّ هناك خراباً أكبر من هذا الخراب، إلا إذا كان هذا البعض شجاعاً إلى درجة المجاهرة بأن كل ما سبق يمثّل إنجازات تستحق الدفاع عنها.
محمد زبيب
الأخبار عدد الخميس ٢ نيسان ٢٠٠٩