مصادرة الاراضي الفلسطينية وتجريفها‬‎
احمد .. 9 سنوات , وطفولة عَمدها الحصار

الاثنين، 22 يونيو 2009

«إن عشقت اعشق قمر، وإن سرقت اسرق جمل».

ضحى شمس *

الانتخابات الأخيرة في لبنان مثال على صوابية هذا المثل السائر الذي يُقال في معرض نصح من يريد السرقة، (لاحظوا تعاطفنا الشعبي التاريخي مع اللصوص) أن يصوّب عالياً، لأن الرائي لن تخطر بباله ضخامة السرقة، أو وقاحة السارق في التبختر بجمل مسروق أمام الجميع. و«الجمل» في الرواية الانتخابية اللبنانية الأخيرة، هو الرشوة التي كان حجمها بالحقيقة معادلاً لقافلة من الجمال والإبل. قافلة أدخل بواسطتها اللبنانيون، بحنكتهم المعهودة، «أغنياءهم» من خرم أبرة صناديق الاقتراع، إلى ملكوت السلطة السياسية، من دون أن تلحظها أيّ من عيون لجان مراقبة الانتخابات الأميركية أو الدولية أو المحلية أو الأوروبية أو العربية أو التركية أو حتى وزارة الداخلية، المعتادة تاريخياً على هذا النوع من النشاط «الوطني». مع أن تلك اللجان سرحت منذ ما قبل الانتخابات، كما يسرح البزاق بعد المطر في ربوعنا، مفاجئة المتابع بعدد المتطوعين فيها، وبتعدد تمويلها، وبقلة ثقة مرجعياتها الواحدة بالأخرى ـــــ بدليل إرسال كل منها لجنتها الخاصة ـــــ وبوتيرة نشاط طمأن في البداية المواطن العادي، إلى أنه لا شيء سيمر من تحت أنفها و«السما زرقا».
وبما أنه لـ«السما الزرقا» خبرة بمواضيع القوافل والجمال، فقد مر الأمر برشاقة منقطعة النظير. وهي رشاقة حسدهم عليها بعض أتباع الألوان الأخرى، ممن رشوا وارتشوا بأشكال متعددة، مع أنهم بدوا بالمقارنة، حديثو النعمة في ملكوت فاسدي لبنان.
كلام كثير كتب وقيل عن الرشى الانتخابية، لكن معظمه كان «غائماً» من دون تفاصيل. لم يثبت أحد على أحد شيئاً. لم يشهد أي شاهد بأي شيء، مع أن التداول بالأمر بلغ حداً نشرنا معه في «الأخبار» ما يشبه التسعيرة تبعاً للمناطق التي ستشهد معارك على تمثيلها، ومع أن هذه المخالفة هي الأكثر توقعاً وحصولاً في الاستحقاق الأخير، ومع أنّ لمراقبينا باعاً طويلاً في المراقبة (انظر جيمي كارتر صاحب الشهادة الوحيدة الإيجابية بانتخابات «حماس»)، فإنه لا أحد قبض على أحد بحادثة رشوة، لا بل إن الجميع أعلن قبوله بنتائج الانتخابات. هكذا، مرت مقالة في الـ«نيوزويك» للصحافي كريستوفر ديكي (عدد 9حزيران) تحدثت عن تمويل سعودي للحملة الزرقاء فاق بحجمه تمويل حملة باراك أوباما شخصياً، من دون أن يقتبس أحد منه شيئاً، لا الصحافة ولا المراقبون. لماذا؟ الجواب ببساطة: لأن فساد الناس أصبح عاماً أكثر من أي وقت مضى. هناك تواطؤ على الفساد «حكومة وشعباً» باعتباره «موسماً للاسترزاق». وهو موسم يجري خلاله تنفيس احتقان الحرمان الذي تسببه سياسات الدولة الليبرالية المتوحشة، بما لا يزعج بنيتها بل يعززها.
هكذا، يتيحون بأنفسهم مواصلة حرمانهم بانتظار موسم «الاسترزاق» المقبل، والاستحقاق البلدي ليس بعيداً. لقد أصبح الفساد بنية بديلة للدورة الاقتصادية، ولعلاقة اللبنانيين بدولتهم، كذلك فإنّ مجلس الإنماء والإعمار بديل لوزارة التخطيط، ومولّد الكهرباء بديل للتيار الرسمي، والقطاع التربوي الخاص أصبح بديلاً للقطاع الرسمي (لمن استطاع إليه سبيلاً) وبتواطؤ من نوليه عليه، برغم تعارض مصالح مؤسساته الخاصة التربوية مع مصلحة المدرسة والجامعة الرسمية.
لقد وصل التواطؤ بين المرتشي والراشي، وكلاهما يعاقبه القانون، إلى حد الإجماع الوطني. أي إن عدد الموافقين على الرشوة الانتخابية قد يفوق عدد المتفقين على نهائية لبنان وطناً لأبنائه. أي إنّ الرشوة الانتخابية ليست فقط مقبولة، بل منتظرة ومتوقعة ومنتشرة، ما يجعل المرء يعيد النظر بتصنيفها. فإن كان شعب بكامله، أو لنقل بأغلبه، فاسداً، فمن يقرر تصنيف الرشوة مخالفة؟
أما القصة الوحيدة التي خرجت للعلن بموضوع الرشى، فقد كانت دليلاً على ما نقول. فالرجل الذي اتهم النائب إبراهيم كنعان بالرشوة، كان يتهمه من باب أنه لم... يفِ بتعهداته المالية، لا من باب انتقاد الفساد، لا سمح الله أو غادة عيد.
هذا التواطؤ جعل شخصاً مثل خوسيه إيغناسيو سالافرانكا، رئيس البعثة الأوروبية لمراقبة الانتخابات، يرد على سؤال عن ممارسات الرشوة الانتخابية، بأن هذا الأمر، اسمعوا جيداً، «تقليد لبناني». وبما أنه تقليد، فإن سالافرانكا، بحرصه على مراعاة «الإتيكيت»، لم يتدخل حتى لمجرد الطعن بصحة الانتخابات التي أتى لمراقبتها.
أما لو كانت المعارضة هي الرابحة؟ فهل كان سالافرانكا ليقول ما قاله؟ قد تكون الإجابة المرجحة أقرب لإجابة راقية إبراهيم الشهيرة لعبد الوهاب: بالطبع لا.
اللبنانيون فاسدون ومفسدون أكثر من أي وقت مضى. يريد اللبناني أن يتوظف بالدولة «لأنه ما بتشتغل شي والعطل كثيرة»! وبالطبع لا يمكن أن «يشحطوك» منها لأنك ممثل الطائفة فيها، ما سيجبرهم على طرد موظف من طائفة أخرى وإلا فالكلام سيتصاعد عن التوزان والتجني... ولكل طائفة عدتها من «المخاوف» الوطنية.
أما حين يتخرج «الصبي»؟ فإن «كونسلتو» العائلة يجتمع بقضه وقضيضه، ويجري التباحث في أفضل السبل لاقتحام «مصلحة الجمارك» مثلاً، أو «تزبيطه» أي توظيفه، في «النافعة» أي مصلحة تسجيل السيارات. أما لماذا هذه المصالح دون غيرها؟ «ولو؟ فيها براني» يقولون لك. وما هو البراني؟ هو باختصار المال الذي يمكن الموظف تحصيله من خارج المعاش... لكن أثناء الدوام. أي إنه أحد أسماء الرشوة الحسنى. وهي أسماء نصرفها يومياً في كل مرافق حياتنا العامة اللبنانية لكي تمشي. هكذا تبدو البلاد مصممة، بالأصل، بالمنشأ، للواسطة والرشوة، وتبدو الأمور عاجزة عن التصريف إذا لم يمشِّها «فلان» أو يزبطها «علّان»، لا بل إن الناس نسوا حتى ما هو القانون الذي تخالفه.
لم يعد «مكره أخوك لا بطل»، بل أصبح بطلاً، وببطولة مطلقة. بطولة إعجازية، حصرية، تجلت في فيلم الانتخابات الأخيرة: بطولة ملأت الشاشات لدرجة أن لا أحد لاحظها. أن تتسع ممارسات الرشوة لدرجة تصبح هي القاعدة لا القانون. أن تسرق جملاً، وتعبر فيه برشاقة راقصة بولشوي، أمام أصحابه، وهم يحيونك ويدعونك لشرب القهوة. هذه هي الشطارة، والشطارة كما تعلمون قيمة لبنانية بامتياز.
في نهاية اليوم الانتخابي الطويل، عدت إلى البيت، فلمحت ناطور البناية جالساً كعادته على كنبته. استغربت أنه هناك مع أن اليوم يوم عطلته، وفوق الدكة انتخابات، فسألته إن كان انتخب؟ فرد وهو يكنس الهواء بظاهر يده: «لشو؟ ما حدا إجا صوبنا ولا قلنا بأديش الكيلو؟ عمرو ما يكون». «على رأيك»، قلت في نفسي. لا بل قلت له ذلك بصوت عال!
* من أسرة الأخبار

اليسار اللبنانيّ والانتخابات : الأبيض لوناً من ألوان التغيير

سماح إدريس *


بعد انقضاء أكثر من ثلاثة أسابيع على الانتخابات النيابيّة اللبنانيّة، ما زالت التحليلاتُ تتوالى عن أسباب خسارة المعارضة وفوز الموالاة. ثمة فريقٌ من المعارضة لا يَعتبر أنها هُزمتْ أصلاً؛ وهذا ما قد يسمّى في التحليل النفسيّ «حالةَ إنكار». وثمة مَن يعتبره «مقصوداً» لإبراز عدم تدخّل سوريا، أو لخشية حزب الله من أن يكون في الواجهة الرسميّة في المرحلة المقبلة «المحفوفة بالمخاطر الإسرائيلية ــــ الأميركيّة».

■ ■ ■

مهما يكن الأمر فإنني، بصراحة، لم أذرف الدمعَ السخينَ لخسارة المعارضة. فعلى إجلالي للمقاومة، وتأييدي الحاسم لها ولسلاحها، ولبقائهما إلى ما بعد بعد تحرير شبعا والغجر (نعم، حتى تحرير فلسطين والجولان)، فإنني لا أرى فارقاً كبيراً بين المعارضة (في جسمها الرئيس ممثَّلاً بحزب الله والتيّار الوطني الحرّ) والموالاة. وقد كتبتُ في هذا الموضوع غيرَ مرّة (راجع مثلاً مقالي في جريدة الأخبار في 28/12/2008)، وأُوجزُ عيوبَ المعارضة في العناوين السريعة التالية: التشدّق الكلاميّ بالرغبة في بناء «الدولة» في مقابل التقوقع العمليّ في الأطر الطائفيّة، وعدمُ التأسيس للعلمنة الشاملة، وإهمالُ الحقوق المدنيّة للشعب الفلسطينيّ في لبنان. لكنّ ما أحزنني فعلاً هو النتائجُ الهزيلةُ التي حصدها «اليسارُ» في هذه الانتخابات، وتحديداً حركة الشعب في بيروت، والحزب الشيوعيّ في غير مكان، والتنظيم الشعبيّ الناصريّ في صيدا، حتى بلغ الفارقُ بين بعض مرشّحي اليسار ومرشّحي اليمين أكثرَ من... خمسين ألف صوت.

■ ■ ■

بدايةً، أشعر أنّ اليسار خسر المعركة «المبدئيّة» قبل أن يخوض المعركة الفعليّة. رُبّ قائلٍ إنّ المعركة الانتخابيّة ليست معركةَ مبادئ. ولكنّ هذا القولَ، ببساطة، على خطأ. ذلك أنّ الانتخابات هي، في واقع الأمر، من أكثر أشكال المشاركة السياسيّة علنيّةً. ومن ثمّ، فإنها امتحانٌ فعليّ وعلنيّ لصلابةُ المرشّح (ولا أقول تحجّره)، ولمدى انسجام أفكاره مع أفعاله. إنّ إشعاع المبادئ والمُثل، في معركة الانتخابات تحديداً، يجب أن يكون أحدَ أهمّ أسلحتنا في مواجهة الانتهازيّة وسوء استخدام الأفكار الكبرى.
لقد رفض اليسار قانون الستّين لأنه، بحقّ، قانونٌ متخلّفٌ يَضْرب عرض الحائط بمطالب القوى الوطنيّة والتقدميّة المزْمنة، وأهمُّها: التمثيلُ النسبيّ، ومشاركةُ الشباب بدءاً بسنّ الثامنة عشرة اقتراعاً وترشّحاً، واعتبار لبنان دائرةً انتخابيّةً واحدةً بما يتيح للأكفأ حقّ التمثّل في الهيئة التشريعيّة. لكنّ هذا اليسار سرعان ما هرول إلى خوض الانتخابات، وسطَ استغراب مناصريه وذهولهم واستنكارهم أحياناً: فكيف يرضى يساريّ أن يواصل الترشّح سنوات بعد سنوات عن المقعد «الشيعيّ» أو «السنّيّ» على سبيل المثال لا الحصر؟ بل تناهى إلينا أنّ قسماً من اليسار سعى أوّلَ الأمر إلى أن «يتكرّمَ» عليه معسكرُ المعارضة الملتبسة بمرشّح على لائحته؛ حتى إذا استُبعد، ارتدى زيَّ المبادئ القويمة، وتباهى بالترشّح... منفرداً!
وفي كلّ الأحوال، فلو أنّ اليسار ثَبَتَ على موقفه المبدئيّ منذ البداية، رافضاً دخول معمعة الانتخابات المبنيّة على الطائفيّة والزبائنيّة (الداخليّة والخارجيّة)، لعَزّز ــــ في أقلِّ تقدير ــــ رؤيةََ الناس إليه بوصفه بديلاً حقيقيّاً أو محتمَلاًً، لا يفتّش عن المناصب كيفما أتت. وللمرء أن يتساءلَ، في هذا الصدد، جملة تساؤلات:
أصلاً، ما معنى أن يفوزَ اليسارُ بمقعد أو اثنين، إذا انثلمتْ ثقةُ مناصريه بمبدئيّته، أو شكّكوا في استقلاله الذاتيّ عن الاستقطابات كلها؟ وما تراه سيفعل اليومَ لو فاز، وهو شبهُ أعزل، في مجلس يكتظّ ــــ أكثرَ من أيّ وقت مضى ــــ بالطائفيين والمذهبيين والإقطاعيين والرأسماليين وأمراء الحرب السابقين والإمّعات، غيرَ الصراخ بلا طائل؟ ثم ألن يأتي فوزُه الهزيلُ نفسُه مَديناً لأصوات حزب الله أو التيّار العونيّ، لا لقاعدة اليسار الوطنيّ والقوميّ (المشتّتةِ لأسباب كثيرة)، بحيث يغدو رفيقُنا، النائبُ العتيدُ، «لاجئاً سياسيّاً» عند ذلك الحزب أو هذا التيّار، أسوةً بالياس عطا لله اللاجئ السياسيِّ عند آل الحريري (مع الفارق الشاسع، طبعاً، بين الحريري «السلاميّ» وحزب الله المقاوم)؟
ألن يَصْعب عليه، أخلاقيّاً في الحدّ الأدنى، أن يتّخذ موقفاً موضوعيّاً ومستقلاً إزاء أيّ قضيّة لا تحظى ببركة «الحزب» أو «التيّار»، وإلاّ عُدّ خائناً لمن أوصله إلى الندوة البرلمانيّة، كما هو حالُ بعض النوّاب الذين جاؤوا عام 2000 على القاطرة الحريريّة ثم انقلبوا عليها، فاستحقّوا لعنةَ الحريريين؟
باختصار، افتقر اليسارُ في هذه المعركة إلى شيء من مبدئيّته (ومن مثاليّته؟ بالتأكيد! ومَنْ قال إنّ المثاليّة أمرٌ معيب، أو غيرُ قابل للتحقّق، ولو بعد حين، إنْ ثَبَتَ المرءُ عليها؟). الحقّ أنّ المبدئيّة هي من أكثر ما يَنْشده، في المرشَّح، عددٌ كبيرٌ من الطلاب والمثقّفين والفنّانين والمحامين وأساتذة الجامعات والناشطين في مؤسّسات المجتمع الأهليّ و«المتردّدين» (والأخيرون بمئات الآلاف).
لقد انجرّ اليسارُ إلى ملعب اليمين والطوائف، بعدما تيقّن من فشله في تغيير القانون الانتخابيّ المتعفّن، فانزلق في الانتخابات، بحساباتها وأرقامها المضلّلة وتكتيكاتها التي لا قدرة له عليها. وكان أجدى به أن يجترحَ وسائلَ أحدثَ وأكثرَ إبداعاً للوصول إلى الناس مباشرةً، بدلاً من محاولة الوصول (شبه) المستحيل إلى البرلمان من أيّ طريق كان.
وزاد الطينَ بلّةً أنّ اليسار، بعدما حزم أمرَه بخوض الانتخابات على أساس لامبدئيّ وغير مقْنع، قد خاضها بعدّةٍ هزيلةٍ لا تَضْمن له إلاّ الخسارةَ... غيرَ البطوليّة: فقانونُ الستين ضدّه، والموالاةُ ضدّه، وجمهورُ الطوائف كلّه ضدّه، والمعارضةُ الملتبسة نفسُها ضدّه (وإنْ على استحياء وخَفر)، والمالُ السياسيُّ ضدّه، ورجالُ الدين ضدّه (إذ لا بطريركَ لليسار اللبنانيّ يَحْقنه بجرعة فياغرا، كما حقن بطريركُ الموارنة، المكتظُّ بعروبته المفاجئة، معسكرَ 14 آذار)، والأنظمةُ الرجعيّةُ العربيّةُ ضدّه. يضاف إلى ذلك أنّ النظام السوريّ نفسَه بدا بالغَ الحرص على «تسوية» مؤتمر الدوحة بين الموالاة والمعارضة؛ بل ظهر أنه لم يحرِّضْ بعضَ الجماعات التي «يَمون» عليها في لبنان على التصويت لليسار، ولم يَدفعْ (كعادته؟) بآلاف «المجنّسين» اللبنانيين القاطنين في البلدات السوريّة إلى الذهاب للتصويت الكثيف في لبنان لمصلحة هذا اليسار المأزوم في غير موقع.

■ ■ ■

إذاً، لم يكتفِ اليسارُ بإهدار شيء كبير من مبدئيّته حين انخرط في قانون جائر سبق أنْ رفضه بحزم، بل أخطأ أيضاً في حساباته ورهاناته السياسيّة، فاستحقّ (للأسف) هزيمةً كبرى. فقد راهن على أن تَحْشد المعارضةُ الملتبسة، وبخاصّة حزب الله والعونيّون، أنصارَها دعماً له. وقد تبيّن في 7 حزيران أنّ «دعمَ» المعارضة لليسار اقتصر، في أحسن الأحوال، على «رفْع العتب».
خذْ دائرة بيروت الثالثة مثلاً: فهنا لم يَقترع «الشيعةُ» (وجُلّهم من المعارضة) إلا بنسبة لا تتجاوز 40% تأييداً للائحة «قرار بيروت الوطنيّ» المدعومة من حركة الشعب! وربّ قائلٍ إنّ هذه نسبةٌ مرتفعة، لكنها في الحقيقة ليست كذلك، ولا تعبِِّّر عن شغفِ حزب الله بأعضاء اللائحة المذكورة (وضِمْنهم الرفيقان نجاح واكيم وإبراهيم الحلبي والزميل رفيق نصر الله). طبعاً لم يكن ممثّلا حركة الشعب وحلفائها سيرْبحون في كلّ الأحوال، نظراً إلى تعاظم التجييش المذهبيّ والمال الانتخابيّ وعوامل أخرى يضيق بها هذا المقال. ولكنْ أن يصوِّتَ لهم 22 ألفاً من «شيعة المعارضة» (أيْ 70% من شيعة هذه الدائرة) بدلاً من 12 ألفاً مثلاً، فذلك سيكون أقلَّ وطأةً عليهم، وأحفَظَ لماء وجه اليسار الوطنيّ والقوميّ الذي كان ــــ للتذكير ــــ أبرزَ حلفاء حزب الله أثناء عدوان تمّوز 2006 وبعده وقبله! والحال أنّ خطأ بعض اليسار في المراهنة على الأرقام والاستطلاعات «الموثّقة» قد أحبط اليومَ آلافَ الشباب المتطلّعين إلى التغيير. كما أنّ رهانَه على دعم المعارضة الملتبسة لا يُغتفر: فقد سبق أنْ لُدغ من جحْرها مرّتين على الأقلّ (في الانتخابات النيابيّة والبلديّة قبل سنوات قليلة)، وكان يُفترض أن يعي أنّ الثالثة... ثابتة!

■ ■ ■

ولنعترفْ، أيضاً، بأنّ بعضَ اليسار (والمعارضة الملتبسة) لم يقدِّمْ أحياناً نماذجَ تستحقّ أن تكون بدائلَ فعليّةً من مرشّحي الموالاة المنافسين. وذلك، في رأيي، أحدُ أسباب عدم اجتذاب يسارنا للكتلة «المتردّدة» الضخمة. تُرى، ما الذي يَجْمع مناضلاً شيوعيّاً نزيهاً ومناضلاً ناصريّاً علمانيّاً عريقاً بممثّلين عن الطوائف والإقطاع العائليّ... في لائحة «معارضة» واحدة؟ ومَنِ استمع إلى خُطَب بعض مرشّحي حلفاء حركة الشعب على لائحة بيروت الثالثة مثلاً، أَدركَ سريعاً أنهم لا يستحقّون أن يَبذل الإنسانُ العاديّ كبيرَ جهد لدعمهم. تصوّروا أنّ أحدَهم صَرف جزءاً من خطابه لشتم الشعارات العامّيّة للموالاة من قبيل «ما بيرجعوا والسما زرقا» (قائلاً بصوتٍ جهير: «العامّيّةُ ليست منّا ولسنا منها»)، ولرجْمِ «الدعارة» في لبنان، وكأنّ مشكلةَ بلدنا هي مع العامّيّة والمومسات! وتصوّروا أنّ مرشّحاً آخر أَقرّ على إحدى المحطّات التلفزيونيّة بأنه كان يأمل أن «يأخذَه» سعد الدين الحريري على لائحته! وهناك أكثرُ من مرشّح مدعوم من اليسار يخْطئ في قواعد العربيّة أكثرَ ممّا يخطئ الحريري وكارلوس إدّة (مَنْ قال، بالمناسبة، إنّ اللغة الصحيحة والثقافة الراقية هما خارجَ معايير النائب الجيّد، أو إنّ باكويّة آل فرنجيّة وطائفيّةَ وليد جنبلاط وعنصريّةَ آل الجميّل وهضمنةَ مصطفى علّوش وجمالَ مصباح الأحدب وشراسةَ علي عمّار وأموالَ محمّد الصفدي... أهمّ؟).
على مَنْ يريد أن يَهزم الحريري والسنيورة، وأمثالَهما من حيتان المال والضرائب والرجعيّة، أن يأتيَ بنماذجَ أفضلَ بكثير: موقفاً، وتاريخاً، وتحليلاً، وتقدّميّةً... ولغةً.

■ ■ ■

علاوةً على ما سبق، فقد خاض اليسارُ معاركه الانتخابيّة مفكّكاً، بدلاً من أن يخوضَها في لوائحَ (أو لائحة) موحّدة في طول البلاد وعرضها. وقد كان رأيي الشخصيّ قبل شهور أن يخوضَها بأوراق بيضاء، شجباً للقانون الانتخابيّ الرثّ، ولا سيّما أنّ هذه الأوراق باتت تُحتسب عند الفرز (ولم أكن أعلمُ ذلك حين أدليتُ بصوتي!)، وصار في مقدور مَن يَعتبر نفسَه خارجَ الاصطفافات الطائفيّة والزبائنيّة أن يدليَ بصوته الأبيض الناصع الشاجب للّعبة التزويريّة برمّتها. بمعنًى آخر، كان على اليسار أن يمثّل رأسَ حربة لمقاطعة هذه الانتخابات: فيسيّر المسيرات، وينظّم الاعتصامات، ويجْمع التواقيعَ الكثيفةَ على العرائض (كان الرفيق ألبير فرحات قد صاغ إحداها في الدعوة إلى قانون انتخابيّ بديل)، وينقلَ المعركة من مستوى التراشق الإعلاميّ بين المرشّحين إلى مستوى الجامعات والثانويّات والمنظّمات الشبابيّة والمنابر الثقافيّة... والسلك القضائيّ (إذ إنّ قانون الستّين، كما بات معروفاً، مخالفٌ لاتفاق الطائف الذي نصّ على أنْ تجري الانتخاباتُ على أساس المحافظة لا القضاء).
نعم، كان على اليسار في الانتخابات الأخيرة أن يقفَ إلى جانب (بل أمام) ما يزيد على 11 ألف ورقة بيضاء يحْلم أصحابُها بتمثيل ديموقراطيٍّ حقيقيٍّ، قائم على النسبيّة. الورقة البيضاء كانت ورقة موقف لا قعود، ومواجهة لا استسلام لمنطق «لبنان هيك». ورُبَّ ضارّة نافعة: فلعلّ الصفعة الانتخابيّة الجديدة التي تلقّيناها، كيسار وطنيٍّ وقوميٍّ وعلمانيٍّ داعم للمقاومة الشاملة، أن تدفعنا إلى أن نغيّر مسارَنا، فنستندَ اليوم وفي الغد إلى تلك الأصوات الناصعة التي تؤشّر على حالات متنامية من القرف... والرغبةِ العنيدةِ في التغيير الجذريّ.
* رئيس تحرير مجلة الآداب
(يُنشَر هذا المقال في العدد المقبل من المجلة)


الأخبار عدد الجمعة ١٩ حزيران ٢٠٠٩